د. أحمد الشامي
أثارت سرديّة حرب طوفان الأقصى وما تبعها من وقائع تساؤلات كبيرة استدعت فتح نقاش جدّيّ لتقديم إجابات مقنعة عنها. لم يكن الأمر جديداً في مستوى العنف والتوحّش لدى الصهيونيّة اليهوديّة المحميّة من أنظمة غربيّة رأسماليّة وأخرى شموليّة مستبدّة، وإنّما الجديد كان هذا السلوك الصادم الذي مارسته -ولا تزال- شعوب وهيئات، عدّت نفسها دوماً مدافعة عن الإنسانيّة وحقوقها، لأسباب دينيّة -إسلاميّة أو مسيحيّة- أو لأيديولوجيا وضعيّة، وبشكلٍ خاصّ، صمتها المريب أو تواطؤها الصارخ على ما يحدث في فلسطين والمنطقة، ما سمح لآلة الحرب في الاستمرار في قتل الناس وتدمير ممتلكاتهم.
ما الذي يدفع البشر إلى هذا التبلّد تجاه أعمال القتل والتجويع والتدمير؟ وكيف يتحوّل الدفاع عن الحقّ إلى جريمة، بينما يصبح السكوت عن الظلم وعياً وحكمة؟
* الشرّ ليس أصيلاً
ينطلق النقاش، من عقيدة تكوينيّة ترى بأنّ الشرّ ليس أصيلاً في طبيعة البشر، ولكن حينما يتسلّل جزء منه إلى أعماق النفس ويتحكّم في سلوكها، فهذا يعني أنّ جزءاً مماثلاً من الخير قد تلاشى منها في الوقت نفسه. ومع استقرار هذا الشرّ في النفس البشريّة، فإنّه يعمل كطرف مقابل للخير في ميزان داخليّ؛ فإذا ارتفعت إحدى دفّاته، انخفضت الأخرى تلقائيّاً، فينتج عن ذلك صراع داخليّ بين الخير والشرّ قد يجعل الإنسان وحشاً مفترساً يشبه الحيوانات، أو قد ينقّيه ويجعله يرتقي إلى مرتبة خليفة الله على الأرض، مع تحقيق الوجود لغاياته النبيلة في إقامة العدالة.
استفزّت هذه الرؤيا التكوينيّة العقل البشريّ، فأحدثت تبايناً في فهم مسألَتَي الخير والشرّ، بين من يرى أصالة وجودهما في النفس البشريّة منذ الخلق، ومن يرى الخير أصيلاً والشرّ دخيلاً، حيث إنّ الله حين نفخ الروح في الإنسان، إنّما نفخ فيه هذا الحبّ الذي جعل منه إنساناً يعمر بالخير ويستحق أن يرتقي بذلك إلى رتبة الخليفة.
* الإرادة الحاكمة
تؤكّد حقائق من العلم توافقت مع الوحي الإلهيّ أنّ إرادة الإنسان هي التي تتحكّم بمجريات الصراع والتنافس بين الإنسانيّة والتوحّش. تكمن هذه الإرادة في النفس البشريّة، بدءاً من اللحظة التي تضيق مساحة الخير فيها، ما يسمح للشرّ بالدخول إليها كعنصر مؤثّر في مكوّناتها وسلوكها. هذا المتغيّر الجوهريّ يفرض ضرورة البحث في الجوانب الذاتيّة والموضوعيّة لفهم أسباب التدهور السريع لمستوى العدالة داخل نفس الإنسان وبين الناس.
يعتمد البحث هنا على ثابت أساسيّ في منظومة بناء الجسد البشريّ، وهو أنّ القدرات المناعيّة المقاوِمة تعدّ العامل الأهمّ في الحفاظ على نموّه السليم وتعافيه، وتمكينه من مواجهة التحدّيات. تحمي هذه القدرات بنيته الجسديّة من الأخطار الخارجيّة التي تحيط به دائماً، وتراقب أيّ علامات ضعف تتسلّل إلى هذا الجسد فتحميه.
* التخلّي عن القدرات المناعيّة
تساعد هذه الحقيقة على القول إنّ الشعوب التي تقبع الآن في سكوت مريب أو تواطؤ مُذلّ ومعيب تجاه مشاهدات الحرب في غزّة أو أيّ مكان آخر، ليس بسبب فقدانها القدرة على التمييز بين الخير والشرّ، بل هي تعي ذلك بوضوح، ولكن لتخلّيها التدريجيّ عن قدراتها المناعيّة المقاوِمة، ما جعلها بهذا المستوى من الوهن، فاستسلمت.
تبدأ مرحلة التراجع التدريجيّ في القدرات المناعيّة المقاوِمة، منذ اللحظة التي ابتعدت فيها عن حقيقتها وجوهرها، وعن نفحة الحبّ للحقّ والحقيقة التي أودعها الله في قلب الإنسان ليحافظ على سلامته، وجعلها أمانة في عنقه ومعياراً للحكم العادل يوم الحساب. ويتمثّل ذلك في انكشاف صدق هذا الحبّ المتجلّي في العلاقة مع الذات والآخر، وخاصّة مدى رفضها للظلم بمواجهته، وإيمانها بالحقّ بنصرته.
لذلك، يمكن القول بموضوعيّة إنّ الشعوب والأنظمة والهيئات التي تتكاسل عن نصرة المظلومين في فلسطين والمنطقة، هي في الواقع نتيجة حتميّة لتطبيعها مع الشرّ والباطل والظلم، ما أدّى إلى تزايد ابتعادها عن إنسانيّتها.
* سرّ الرفض
هنا، يتبدّد الغموض في فهم سرّ الاندفاع الدائم لدى أتباع أهل بيت النبوّة عليهم السلام نحو الرفض، وقد نُعتوا بـ«الروافض» نتيجة ذلك، إذ أضفوا على هذا الرفض وعياً جعلهم يستحقّون مكانة المقاومين المحترمين لدى الشعوب التي تنسجم مع حقيقتها وإنسانيّتها. وهذا يأتي تلبية لوصيّة الإمام عليّ عليه السلامالتي نطق بها في أنفاسه الأخيرة للإمامين الحسن والحسين L: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»(1)، بغضّ النظر عن هويّة الظالم أو المظلوم.
أراد أمير المؤمنين عليه السلاممن ذلك أن يعبّر عن جوهر الدين، وهو الحبّ الفعّال، كأفضل وسيلة لجعل قلب الإنسان سليماً. فحينما يقاوم الإنسان الظلم والظالمين، إنّما يوسّع في الوقت نفسه مساحة الخير في داخله، فيغدو فعل المقاومة، مهما اختلفت أبعاده الثقافيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، والأمنيّة، والعسكريّة، مجالاً لتعزيز القدرة الواعية لدى الفرد والمجتمع على محاصرة الظلم والظالمين، حتّى تصير حياة المجتمعات أكثر استقراراً وطيبة.
ليس من قبيل الصدفة هذا الاستهداف العنيف الذي تشنّه قوى الشرّ ضدّ المقاومة، سواء كثقافة أو حركة، عبر أبعادها المجتمعيّة المخلتفة، لمحاصرتها وإضعافها ثمّ القضاء عليها. هذه القِوى تدرك جيّداً أنّ المقاومة هي نقيض وجودها، وأنّه من خلالها سوف يتحقّق الوعد الإلهيّ بملء الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملأها المكر الشيطانيّ ظلماً وجوراً.
(1) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ص 421.