د. سعدون حمادة(1)
عزّزت السياسة العثمانيّة القمعيّة اندفاع الشيعة إلى الالتفاف حول أهداف وعواطف مشتركة، لتكوين جماعة متماسكة ذات مواقف موحّدة على الرغم من اختلاف المناطق. أسهم ذلك في تحديد علاقاتها الداخليّة من جهة، ومع جيرانها من جهة ثانية، خاصّة جبل الدروز، ووضع قواعد واضحة في تعاملها مع السلطة العثمانيّة والدول الأجنبيّة المتدخّلة في الشؤون الداخليّة للدولة.
* تحوّلات سياسيّة في البقاع
ترافقت السيطرة العثمانيّة على لبنان مع عدد من العوامل والظروف التي أسهمت في تعزيز قوّة الشيعة وأضعفت الطوق الذي كان يشلّهم.
في البقاع، قُتل ناصر الدين بن الحنش واختفت أسرته القويّة عن مسرح الأحداث، بعد أن كان في أيّام المماليك مقدّم العشيرة وحاكم بيروت وصيدا والبقاعَين، وبرزت مكانها أسرة بني فريخ، حليفة الحرافشة(2) الذين تمكّنوا من ترسيخ سيطرتهم على بلاد بعلبك، وازداد عدد الشيعة فيها حتّى أصبحوا يشكّلون الأكثريّة من سكّانها، كما تابعوا إدخال البقاع بأسره في دائرة حكمهم للوصول إلى مشغرة، القاعدة القديمة لابن الحنش والمعبر التاريخيّ والثقافيّ بين شيعة البقاع وجبل عامل، ما سيقود حتماً إلى زيادة التواصل وإزالة العوائق بين المنطقتين الشيعيّتين الكبيرتين، ويسهم في خلق واقع سياسيّ وديموغرافيّ قد يكون له بالغ الأثر(3).
* الحماديّون والصراع الطائفيّ
إلى الغرب، «عزّز الحماديّون تحرّكهم فى الاتّجاهين لملء الفراغات البشريّة فى المناطق الجبليّة التي نجمت عن الحملات المملوكيّة في القرن الرابع عشر، وكانوا قد تمكّنوا من الحصول على العديد من المقاطعات الممتدّة من سفوح صنّين الشماليّة إلى جبّة بشرّي في الشمال(4).كما تمّ تشييخ المتاولة في المنيطرة قبل العام 1488م(5) وسكن بعضهم في غزير، قاعدة كسروان(6) التي كانت لم تزل ضمن مناطق الشيعة قبل هجرة الموارنة إليها. ومن الطبيعيّ أن يؤدّي هذا التحرّك إلى تنافس دائم وهادئ مع الموارنة على ملء الفراغات البشريّة، وتصادم مع بني عسّاف وبني سيفا(7)، وهما من أهمّ العائلات التي زرعها المماليك على طول الساحل الشماليّ، وكلّفوها بمهمّات أمنيّة وعسكريّة. وربّما أرادوا منها المساهمة في إخضاع منطقة «عاصية»، التي كان معظم سكّانها معادون لهم بحكم انتمائهم الطائفيّ والمذهبيّ المغاير، فاستعانوا بعائلات عدّة من أصول غير عربيّة، تسلّمت السلطة وتنازعت في ما بينها. إلّا أنّ الجميع ما لبثوا أن اندثروا في وقت مبكّر ولم يعد لهم وجود إلّا على صفحات التاريخ.
* بروز عائلات جديدة
مع الدخول العثمانيّ، اختفى بنو بشارة من واجهة الأحداث، في ظروف يصعب تكهّنها، لعدم وجود ما يمكن الركون إليه في هذا الموضوع، وإن كان من المحتمل أنّهم اندثروا كأعدائهم بني الحنش نتيجة الحروب والتصفيات التي قام بها الغزاليّ، تقرّباً من سيّده الجديد في فترة أولى، وثائراً عليه في آخر الأمر. وكان من نتيجة اختفائهم أن بدأت بعض الأسر الأخرى بالبروز على الساحة، وأهمّها الأسرة الوائليّة (آل علي الصغير) وريثتهم المباشرة التي ستؤدّي دور القيادة في الفترة التالية، تشاركها أسر أقلّ أهميّة ونفوذاً كآل منكر وبني صعب(8).
كما لم تعد صفد تتمتّع بالإشراف المباشر على سير الأحداث في جبل عامل، وإن بقي الأخير يشكّل جزءاً من معاملتها، قبل أن تصبح صيدا مركز الباشا في فترة لاحقة. ولم تعد مركز نيابة، كما كانت أيّام المماليك، وأصبحت مجرّد سنجق (مقاطعة أو منطقة) يُعرض للالتزام كلّ عام، ما جعل العامليّين أبعد عن متناول السلطة ومراقبتها عمّا كانوا من قبل.
في هذه الأثناء، لمع نجم ابن فريخ، وهو أمير بدويّ شيعيّ، جمع بين حكومات نابلس وصفد وعجلون والبقاع، وربّما أصبح أهمّ أمير محلّيّ بعد ابن الحنش، لا سيّما بعد أن أُضيفت إليه إمارة الحجّ أكثر من مرّة، ولكنّه انتهى كغيره من الأمراء قتيلاً في دمشق على يد مراد باشا في العام 1594م.
* الوحدة الجغرافيّة للشيعة
إنّ واقع الشيعة الجغرافيّ ألزمهم بالسعي إلى إيجاد تواصل بين مناطقهم ليجعلوا منها وحدة متّصلة ومترابطة تتمتّع ببعد أوسع، ويمنحهم مزايا حربيّة واقتصاديّة وسياسيّة عديدة ومهمّة. كانت منطقتا شمال لبنان والبقاع متجاورتين لا يفصل بينهما أيّ حاجز إداريّ أو بشريّ، خلا الطبيعة القاسية المسيطرة على قمم الجبال عند انحدارها إلى السفوح الشرقيّة. وعلى الرغم من أنّها كانت عموماً غير صالحة للسكن الدائم، إلّا أنّ سكّانها من الشيعة استطاعوا التغلّب على هذه المصاعب، بقوّة تحمّلهم واعتيادهم على شظف العيش، فأنشأوا شريطاً من القرى على الجانب الشرقيّ للجبل يبدأ من الهرمل شمالاً حتّى حزرتا جنوباً، ما جعل الحدود بين المنطقتين متداخلة والتواصل مستمرّاً ودائماً.
لم يكن الأمر كذلك بين البقاع البعلبكيّ(9) وجبل عامل، فثمّة فاصل بالغ التعقيد هو البقاع العزيزيّ(10)، الذي كان في البدء خارجاً عن سلطة الحرافشة، ولم يكن الوجود الشيعيّ طاغياً على سكّانه(11)، إلّا أنّهم تمكّنوا بعد وقت وجيز من السيطرة على كامل سهل البقاع حتّى تخوم جبل عامل ووادي التيم. في هذه المرحلة، كان المسافر الشيعيّ يستطيع أن يبدأ رحلته من صفد، ويصل إلى آخر حدود لبنان الشماليّة، في أيّ نقطة شاء، من دون أن يسير خطوة واحدة في بلاد لا يحكمها شيعة.
* نهضة شيعيّة
كان نفوذ الحرافشة وحكمهم يصلان في الشرق إلى أواسط البادية، لأنّ حمص وتدمر كانتا غالباً تحت حكمهم، وكذلك صفد أحياناً. أمّا جبل عامل، التابع رسميّاً إلى سنجق صفد، فقلّما استطاع غريب السيطرة عليه إلّا في ظلّ الأزمات والحروب التي تنشأ لهذا السبب ولا تدوم طويلاً. كما إنّ الحماديّين في المناطق الساحليّة والجبليّة، الواقعة بين بيروت وطرابلس، كانوا في أغلب الأحيان يضمّون إلى حكم بلادهم مناطق واسعة تقع الآن خارج حدود لبنان، كصافيتا وحصن الأكراد وجبال الكلبيّين(12). وصار للشيعة في جبل عامل وبعلبك مراكز علميّة مهمّة ومشهورة، تستقبل طلّاب العلم من مختلف البلاد، وتخرّج الأعداد الوفيرة منهم إلى سائر أماكن وجودهم فى ذلك الوقت، فانتشر العلم ونما الاقتصاد وأصبح لهم عموماً فى لبنان بعض الملامح السياسيّة المشتركة – على اختلاف مناطقهم – التي بقيت تظهر مميّزة وواضحة أمام كلّ ما يستجدّ من أحداث مهمّة وتطوّرات كبيرة.
تتركّز أهمّ ملامح هذه السياسة حول مبادئ ثابتة لازمتهم، خصوصاً في الأيّام العصيبة، وفي مقدّمها الاحتفاظ بعلاقات خاصّة في ما بينهم، تحكمها الأعراف والتقاليد المشتركة، وما يقتضي ذلك من تحالف وتعاون في الملمّات، وأمام التحدّيات والأخطار، والتشاور الدائم في الأمور السياسيّة والعامّة.
* النزاع الشيعيّ الداخليّ
من العسير على المنقّب في زوايا تاريخ لبنان، أن يجد معركة مهمّة أو قتالاً ذا شأن نشب بين مجموعتين شيعيّتين كبيرتَين لأسباب حزبيّة أو سياسيّة أو مناطقيّة، أو بسبب تنافس على حكم أو مغنم أو نفوذ، كما كان يحدث باستمرار عند جيرانهم من بعض الطوائف الأخرى التي عانت من الانقسام الحزبيّ والقبليّ والسياسيّ، والمعارك المتواصلة بين قيس ويمن، كما هو شائع ومتواتر، حتّى أصبح سمة بارزة في تاريخ لبنان وما نتج عنه من دمار، أزال بعض القرى وأباد الكثير من العائلات. فإذا وضعنا جانباً ما تتحدّث عنه بعض الأخبار العامليّة القديمة، وهو أقرب إلى الأساطير والروايات منه إلى التاريخ، من صراعات دمويّة بين عائلات تنافست يوماً على الحكم، ولم يبقَ من آثارها شيء كثير ومن ذريّتها أحد، ويحيط الشكّ والالتباس بحقيقة وجودها وحجمه، كآل سودون ومشطاح وظريفة وشكر، وما تناقلته المرويّات عن نزاعات مع الصغيريّين(13) وما سُفك فيها من دماء وسقط من قتلى، لوجدنا أنّ النزاعات على الحكم بين الشيعة، قد اقتصرت على أفراد من العائلة الواحدة، وهذا الأمر هو تقليد شرقيّ قديم، ساهمت السياسة العثمانيّة وفرماناتها في إذكائه واستغلاله.
*مقتبس من كتاب: تاريخ الشيعة في لبنان، د. سعدون حمادة، ج1، ص 81.
(1) كاتب أكاديمي وباحث في مجال التاريخ، من مواليد مدينة الهرمل عام 1943م، توفي في العام 2025م، اشتهر بعمله في مجال التاريخ الاجتماعيّ والسياسيّ، وخاصّة بكتابه «تاريخ الشيعة في لبنان»، الذي فاز عنه بالجائزة العالمية للكتاب في طهران عام 2015م.
(2) تقلّبت علاقة بني فريخ بالحرافشة بين التحالف والعداوة، ويعتقد بعضهم من دون دليل، أنّها أسرة شيعيّة، وكانت نهايتها على يد تحالف معنيّ حرفوشيّ.
(3) بيت بمنازل كثيرة، كمال الصليبي، ص 165.
(4) لبنان من الفتح العربيّ إلى الفتح العثمانيّ، محمّد علي مكّي، ص 266.
(5) الدويهي، ص 363.
(6) المصدر نفسه، ص 488. في أواخر القرن الأوّل للعهد العثمانيّ، كان لا يزال أكثريّة أهل كسروان من الشيعة.
(7) لبنان من الفتح العربيّ إلى الفتح العثمانيّ، مصدر سابق، ص 266.
(8) الأرجح أنّ أسرة علي الصغير متحدّرة من بني بشارة. راجع فصل الحكم الشيعيّ في جبل عامل.
(9) البقاع البعلبكيّ جزء من منطقة البقاع في لبنان. يشير تحديداً إلى السهل الذي يقع بالقرب من مدينة بعلبك التاريخيّة.
(10) البقاع العزيزيّ جزء آخر من منطقة البقاع، وكان يُطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى «العزيز» ابن صلاح الدين الأيوبيّ.
(11) كانت ناحية شوف الحرادين في البقاع الأوسط أحياناً موضع نزاع بين حكّام بعلبك والكرك وحكّام جبل الدروز.
(12) سجلّات المحكمة الشرعيّة في طرابلس، سجلّ رقم 2، ص 80.
(13) هم فرع أو عائلة شيعيّة لبنانيّة بارزة، يعود نسبها إلى آل علي الصغير.