نسرين إدريس قازان
اسم الأم: ناديا روماني.
محل الولادة وتاريخها: دير الزهراني 18/3/1991م.
رقم القيد: 77.
الوضع الاجتماعي: خاطب.
تاريخ الاستشهاد: حلب 7/11/2013م.
بين ظلال الأشجار الوارفة مشى الأب وابنه، يتحادثان عن
الحياة ومسؤوليّاتها.. خطوات في حقل طالما ضجّ بـ"عفرَتة" كبير إخوته الذي أصبح
شابّاً يتهيّأ للزواج.. نظر الوالد إلى منزل ابنه الذي لا تنقصه سوى لمسات أخيرة،
قائلاً له: "شهر وتسكن هذا البيت، فلا تحمل همّ أيّ شيء". سكت برهة قصيرة وأكمل
ممازحاً: "الحمد لله، البيت كبير ويتّسع لاستقبال المعزّين بي من كلّ حدبٍ وصوب"..
لكن جواب حسين حرّك مخاوف القلب الذي يخبّئ تحت نبضه هواجس يعلم أنّها آتية لا
محالة: "وما أدراكَ يا أبي؟ فقد تكون الوفود لأجلي".
* تمنٍّ وصمت مطبق
غصّت الروح في حلق الأب، وتجاسر على الدموع بصمتٍ مطبق، فطريق الرحيل مشرّعة ولا
بدّ من عبورها، ولكنّه تمنَّى تمنّياً خفيّاً أن يُقام العرس قبل غروب تلك البسمة
الجميلة.
كان الأبُ كادحاً في الحياة، تولّى مسؤوليّة أمّه وإخوته باكراً، وكان واحداً من
المقاومين الذين تصدّوا لاحتلال العدوّ الإسرائيليّ. وبين دفّتي هذه الحياة الكادحة
والمقاومة نشأ "حسين"، وأيّ اسم عظيم حمله هذا الصبيّ الذي غذّاه والده بحبّ
الثورة، ورفض الظلم، والشجاعة.
* المشاغب الصغير
لم يكن حسين "المشاغب" الذي تكبره أخته بأقلّ من عام وتصغُره الأخرى بعام،
ليستثنيهما من أفكاره في اللعب في ذلك الحقل الذي طالما تسلّق أغصان أشجاره، وتمرّغ
فوق ترابه وأولاد عمّه، فتعلو الضحكات حيناً والصراخ أحياناً، ولا ينقضي النهار
إلّا وقد امتلأت ساعاته بفيضٍ من الحبور.
"حسين" كثير الحركة لا يهدأ، وقويّ الشخصية لا يقبل أن يتجاوز أحدٌ حدّه معه، يعرف
أن يأخذ حقّه بيده وبلسانه من دون أن يتجاوز حدود الأدب، فيُلزم الآخرين حدودهم بما
يُظهره من حزم وقوّة. ولهذا كان والده يعتمد عليه في كثير من أمور العائلة، ناهيك
عن اصطحابه في بعض الأوقات إلى ورش العمل لمساعدته في بعض الأمور التي تتطلّب
شجاعةً لخطورتها؛ إذ كان يفضّل أن يقوم بها مع ابنه عوض مساعدة أحد من العمال.
* تعلّم من الحياة...
لقد بنى الأب شخصيّة ولده، وعوّده على تحمّل المسؤوليّة، فتعلّم قيادة السيارة في
الثالثة عشرة من عمره. كان إلى جانب دراسته يساعد والده بمبادرة منه، وكان كلّما
انقضت سنة من عمر حسين، هدأت حركته، وقلّ حديثه، وزاد وعيه، وصار يسرحُ في الحقول
متفكّراً صامتاً، مستكشفاً، يغذّي فضوله لمعرفة كلّ ما يدور من حوله بالتعلّم
والقراءة.
مع عائلته، كان حسين المحبّ العطوف، ولم يكن كل ما يدّعيه من قسوة وحزم ليخفي تلك
الرقّة التي كانت تنسابُ في تقاسيم وجهه ورنّة صوته.
وأكثر ما تعلّمه حسين من الحياة هو الصمتُ عمّا يعنيه ويعني عمله. فبعد أن التحق
بصفوف المقاومة، غاب في حديثه مع والده تفاصيل عمله، وكان هذا مدعاة فخرٍ للأب الذي
كان يغلبُ حديثه مع ولده الشؤون السياسيّة والعسكريّة واستشراف الأمور في المنطقة،
ما جعل من حسين شخصاً على دراية بمجريات ما يدور حوله.
* مرحلة بناء الذات
وإذا كان الصمت عن العمل من صفاته، فإنّ الصبر والسكوت على الألم والتعالي على
الوجع هي مراحل من بناء الذات التي أسّسها حسين في نفسه، فإنْ أقعده الألم لم
يتأوّه، ولم يطلب من أحد خدمته بشي، حتّى وكأنّه حينما يريد شيئاً يضع جراحه وآلامه
جانباً.
نشأ حسين على البساطة في الحياة والانتباه إلى مشاعر الآخرين في الملبس والمصروف
والطعام والشراب، حتّى عندما أراد أن يتقدّم لطلب يد خطيبته حافظ على بساطة لباسه،
وعندما لفت أحد أصدقائه نظره إلى الاهتمام قليلاً بالأناقة، لأنه "عريس"، أخبره أنّ
على الآخرين أن يقبلوا الإنسان كما هو دون تصنّع أو تجمُّل، فكم من فقير لا يستطيع
شراء ما نشتريه، وكم من جهولٍ يثمِّن الناس بثمن ما يرتدونه.
* بين المجاهدين
كانت خطوبة حسين وبداية تحضيره للمنزل الزوجيّ بموازاة التحاقه بالجبهة في سوريا
للدفاع عن المقدّسات. وقد اعتاد أهله على غيابه الذي بدأ منذ التحق بصفوف
المجاهدين، ومن دون علمهم بمكان تواجده.
* الوداع الأخير
أسابيع قليلة كانت تفصل حسيناً عن موعد زفافه على عروسه، فاستعجله والده بالعرس،
خصوصاً وأنّ كل شيء أصبح جاهزاً، ولكنّ الذهاب إلى حلب لا يحتمل التأجيل في نظر
حسين، خصوصاً وأنّ أيّام محرّم الحرام كانت تقترب... فحزم حسين حقيبة رحيله.. وقد
كان، يومذاك، وداعه لإخوته ووالدته مختلفاً، وإنْ لم يكن أحد يتحدّث عن الشهادة
صراحة إلّا أنّ كل فرد من العائلة عاش انتظارها. ولكن هو كان يعلم أنّ هذه الرحلة
هي الأخيرة، فقد رأى في منامه أن ثمّة حفرة تشعُّ نوراً، ولم يستطع أحد النزول فيها
من رفاقه إلّا هو.
* زفّة العريس
كانت حلب محطَّ الرحال، ودمه الذي نزف هناك في الرابع من محرّم، كان طريقاً مرسوماً
لعشرات الشهداء الذين التحقوا به فيما بعد؛ فقد استشهد حسين خلال مواجهات مع
العصابات التكفيريّة. أمّا في لبنان، فقد كان الأهل قد هيأوا أنفسهم لرحيل جدّته
لأبيه؛ إذ إنّها كانت تتقلّب بين سكرات الموت، وظنّ الأهل أنّ ما ألمّ بهم من غمّ
وضيق بسبب اقتراب رحيلها، إلّا أنّ الوفد الذي سبق إلى البيت كان يحملُ خبر "زفّة
العريس"..
وحينما قال الأب للجدّة في المستشفى إنّ حسيناً لن يزورها بعد اليوم، ابتسمت وقالت
له إنّه زارها مع رفاقه وأخذها معه إلى مكان أخضر جميل، وأضافت: "أخذني إلى
زيارة الأئمّة والسيّدة زينب عليها السلام، ولكنّه كان يومئ لي ولا يحدّثني...".
لحقت الجدّة بحفيدها بعد فترة قصيرة، إلى جنان الخلد، حيث آثر أن يقيم عرسه في
الدار الآخرة عند "مليكٍ مقتدر".