آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
ثمّة الكثير من الكلام حول مراتب الإيمان وصفات المؤمن في القرآن والروايات. وتحدّثت الروايات بحساسيّة بالغة حول عنوان "الشيعة" وصفاتهم؛ حتّى وصل الأمر بالأئمّة الأطهار عليهم السلام في مخاطبة بعض المتشرّعين والأصحاب والمحبّين الذين كانوا يدّعون التشيّع إلى أن يقولوا لهم: أنتم لستم من شيعتنا، حيث لا نرى صفات شيعتنا فيكم، أنتم أصحابنا.
وقد اعتبرت بعض الروايات أنّ ادّعاء البعض أنّهم من شيعة أهل البيت عليهم السلام هو ادّعاء كاذب يستحقّ الذمّ، لأنّ "الشيعة" من وجهة نظر أهل البيت عليهم السلام هم طائفة من الناس لهم مقام خاصّ ومقدّس، وهم يمتلكون صفات مميّزة جاء ذكرها على لسان المعصومين عليهم السلام.
ومن هنا، نتابع ما ذكرناه في العددين السابقين من صفات شيعة أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام مما جاء في الروايات. وبهذا النحو نتمكّن من معرفة أنفسنا: هل نحن مزيّنون بصفات الشيعة الحقيقيّين؟ وهل يمكننا الادّعاء أنّنا شيعة أم لا؟
* نأمركم بالورع
جاء في الرواية: دخل سدير الصيرفيّ على الإمام الصادق عليه السلام -وهو من خواصّ أصحابه، وقد نقل عنه العديد من الروايات- وكان في مجلسه عدد من الأصحاب، فتحدّث الإمام عليه السلام قائلاً: "يا سدير، لا تزال شيعتنا مرعيين محفوظين مستورين معصومين ما أحسنوا النظر لأنفسهم فيما بينهم وبين خالقهم، وصحّت نيّاتهم لأئمّتهم، وبرّوا إخوانهم فعطفوا على ضعيفهم وتصدّقوا على ذوي الفاقة منهم. إنّا لا نأمر بظلم ولكنّا نأمركم بالورع، الورع الورع، والمواساة المواساة لإخوانكم، فإنّ أولياء الله لم يزالوا مستضعفين قليلين منذ خلق الله آدم"(1).
* شيعتنا محفوظون بشروط ثلاثة
يشير الإمام عليه السلام في هذه الرواية إلى أنّ "شيعتنا" محفوظون ومرعيون من قبل الله تعالى من الأخطار والآفات بشروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يعملوا على إصلاح علاقتهم بالله تعالى وأن يؤدّوا حقّ العبوديّة لله.
الشرط الثاني: أن يعملوا على إصلاح علاقتهم بإمامهم، وأن يكونوا تابعين لإمامهم بصدق ومن صميم القلب مخلصين له ومطيعين لأوامره، وأن تكون نيّاتهم وقلوبهم صافية مع إمامهم. وعندما يقال "النصيحة لأئمّة المسلمين" فالنصيحة في العربية تعني الخلوص وأن يكون للشخص وجه واحد.
الشرط الثالث: أن يعمل الشيعة بوظائفهم اتجاه إخوانهم في الدين، وأن لا يقصّروا في مساعدتهم ومساندتهم. فإذا كان إخوانهم في الدين بحاجة إلى دعم ماليّ هبّوا لمساعدتهم، وإذا هدّدهم العدو سارعوا لنجدتهم، وهم لا يقصّرون في الإحسان للشيعيّ الفقير على وجه التحديد.
* مواساة إخوانكم في الدين
بعد أن يدعو الإمام عليه السلام الشيعة إلى تصفية النيّة للأئمّة وإخلاص نيّة القلب لدعوتهم، يبيّن أن حفظ الشيعة هو نتيجة برّهم إخوانهم، والورع؛ أي لا نريد منكم أن تمارسوا الظلم، بل نريد لكم أن تعتمدوا الورع والابتعاد عن المعصية، وأن تواسوا إخوانكم في الدين، وأن تجعلوهم شركاء لكم في حياتكم؛ فكما أنتم قلقون على حياتكم، تجهدون لرفع احتياجاتكم واحتياجات عوائلكم، عليكم أن تكونوا قلقين على حياة إخوانكم في الدين، وأنْ تبذلوا المجهود الماليّ والاجتماعيّ لمساعدتهم. ثمّ يقول الإمام عليه السلام في تعليل الوصيّة بالمواساة: "فإنّ أولياء الله لم يزالوا مستضعفين قليلين منذ خلق الله آدم".
يتحدّث الإمام الصادق عليه السلام في رواية أخرى أنّ الشيعة هم أكثر الناس زهداً وتقوى، فيقول: "ليس شيعتنا من يكون في مصر يكون فيه آلاف، ويكون في المصر أورع منه"(2).
يقول جابر بن عبد الله الأنصاري للإمام الباقر عليه السلام: "لو نشر سلمان وأبو ذر (رحمهما الله) لهؤلاء الذين ينتحلون مودّتكم أهل البيت لقالوا: هؤلاء كذابون ولو رأى هؤلاء أولئك لقالوا: مجانين"(3).
* الشيعة في كلام الإمام الصادق عليه السلام
عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنّه دخل عليه بعض أصحابه فقال له: "جعلت فداك إني والله أحبّك وأحبّ من يحبّك، يا سيدي ما أكثر شيعتكم؟ فقال له: اذكرهم، فقال: كثير، فقال: تحصيهم؟ فقال: هم أكثر من ذلك، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أما لو كملت العدّة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر كان الذي تريدون...". في هذه الرواية حاول هذا الشخص إظهار عشقه ومحبّته للإمام عليه السلام، حيث شجّع الإمام عليه السلام على الجهاد والنهوض ضد حكومة بني العباس الظالمة وأخبره أنّ الشيعة كُثر إلّا أنّ الإمام عليه السلام أخبره أنه لو كان هناك ما يقارب "313" من الشيعة الحقيقيين لحصل ما تريدون وظهر الإمام عليه السلام، وإذا بلغ هذا العدد اليوم لنهضتُ لمحاربة بني العباس. وهذا كناية عن أنّ إيمان واعتقاد أغلب من يدّعي التشيّع هما إيمان واعتقاد سطحيان، فهم ليسوا شيعة حقيقيين. ثمّ يتابع الإمام عليه السلام الرواية قائلاً: "... ولكن شيعتنا من لا يعدو صوتُه سمعَه، ولا شحناؤه بدنه، ولا يمدح بنا غالياً، ولا يخاصم لنا والياً، ولا يجالس لنا عائباً ولا يحدّث لنا ثالباً ولا يحبّ لنا مبغضاً، ولا يبغض لنا محبّاً"(4).
* محبّ لأوليائه معادٍ لأعدائه
الشيعيّ الحقيقيّ هو الذي يتحدّث بثقة وهدوء، لا يصرخ ولا يُعَقّد الأمور، وهو لا يغالي في مدح الأئمّة المعصومين عليهم السلام ولا ينسب إليهم الصفات الإلهيّة، يتصرّف مع محبّي أهل البيت عليهم السلام انطلاقاً من السلام والرفاقة ولا يعاديهم، ولا يجالس أعداء أهل البيت عليهم السلام والذين ينتقصون منهم؛ لأنّ مجالسة الضالين تضعف الإيمان.
يشير مضمون بعض الروايات إلى أنّ المؤمنين ومحبّي أهل البيت عليهم السلام أشخاص طاهرون؛ فإذا صدر منهم عمل قبيح أظهروا عدم رضاهم وغضبهم من المعصية والقبيح وليس من أنفسهم. وإذا صدر عن أعداء أهل البيت عليهم السلام عمل حسن أحبّوا عملهم ولم يحبّوهم لأنفسهم؛ لأنّ ذواتهم تختزن الفساد والشقاء والضلال.
وتشير بعض الروايات إلى أنّ الله تعالى إذا أحبّ شخصاً لم يجعله عدوّاً، وإذا صدرت منه المعصية عادى معصيته. وعلى العكس، إذا كان الله تعالى عدواً لشخص وصدر عنه عمل حسن، أحبّ عمله ولم يحبه لنفسه.
* يبلوهم ليطهّرهم.. ليُنجيهم
بعد أن سمع صحابيّ الإمام الصادق عليه السلام الجواب سأل الإمام عليه السلام، على الرغم من إدراكه أنّ الشيعة كثيرون وأمّا الذين يؤدّون وظائفهم ويعرفونها قلّة: "فقلت: فكيف أصنع بهذه الشيعة المختلفة الذين يقولون إنهم يتشيّعون؟ فقال: فيهم التمييز، وفيهم التمحيص، وفيهم التبديل، يأتي عليهم سنون تفنيهم، وسيوف تقتلهم، واختلافات تبددهم. إنّما شيعتنا من لا يهِرُّ هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب، ولا يسأل الناس بكفّه وإن مات جوعاً".
إنّ الشيعة السطحيين والظاهريين الذين لم يعملوا لإيجاد الصفات القيّمة لأتباع أهل البيت عليهم السلام الحقيقيّة في أنفسهم والذين اعتادوا النفاق والرياء، سيواجهون في هذه الدنيا العديد من الصعوبات والابتلاءات، سيبتلون بالفرقة والاختلاف والقحط وضيق الحال، وسيحمل العدوّ عليهم يريق دماءهم، ويتذوّقون في هذه الدنيا جزاء عدم صدقهم وضعفهم في وظائفهم ومسؤولياتهم، وبذلك يتطهّرون من معاصيهم.
وقد تحدّثت بعض الروايات حول مراحل تطهير الشيعة في الدنيا وعند الموت والقيامة؛ فالشيعي يتطهّر بما يحصل له من ابتلاءات وأمراض وصعوبات في الدنيا، وإذا لم يتطهّر بالكامل حصل ذلك عند خروج الروح. وإذا لم يحصل ذلك، حصل في البرزخ بحيث تحمّل آلام عالم القبر. وأمّا إذا كانت ذنوبه كبيرة بحيث لم يتطهّر في البرزخ، يتطهّر من كافة ذنوبه في عالم القيامة. يلقى الشيعيّ جزاء ذنوبه في ساحة الحشر ثمّ تشمله الشفاعة فينجو من عذاب الله.
(1) بحار الأنوار، المجلسي، ج68، ص153.
(2) (م.ن)، ص164.
(3) (م.ن)، ج22، ص341.
(4) (م.ن)، ج5، ص157.