مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإمام الخامنئي دام ظله: القائد الإنسان

(في حوار مع المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان د. محمد مهدي شريعت مدار)
حوار: عدي الموسوي


تتميّز شخصيّة الإمام الخامنئي دام ظله القياديّة والسياسيّة ببُعد إنسانيّ خاصّ، يتجلّى لكلّ من يعايشه عن قرب، أو يحضر لقاءاته المختلفة. المستشار الثقافيّ في لبنان الدكتور "محمد مهدي شريعت مدار" هو من الشخصيّات التي عايشت الإمام الخامنئي دام ظله منذ سنوات طويلة مع بدايات انتصار الثورة الإسلامية، وفي حوارنا معه عايشنا مشاهد دافئة عن نشأة هذا القائد، أهمّ ميزاته العمليّة، سياسته مع الناس والثورة، والآخر المختلف، بين صلابة المبدأ وعاطفة الأب القائد.

*استهلّ د. "شريعت مدار" حديثه بالتطرّق إلى العوامل التي أسهمت في تظهير البعد الإنسانيّ في شخصيّة الإمام القائد دام ظله، فقال:

لا شكّ في أنّ عوامل تقليديّة كدور الأسرة وأثر الوالد، إذ كان أحد الوجوه العلمائيّة البارزة في مدينة مشهد، وطبعاً أجواء الدراسة الحوزويّة أسهمت في تشكيل شخصيّة القائد دام ظله. فمدينة مشهد -حيث نشأ سماحته- شهدت في الخمسينات والستينات حركة ثقافية واسعة، متعدّدة في اتّجاهاتها الفكريّة والفلسفيّة. فنشأ الإمام الخامنئي متأثّراً ومساهماً ومؤثّراً، حيث عُرفت عنه مشاركاته العلمية. ولاحقاً اكتسبت تجربة سماحته الخضْرمة في الجمع ما بين دراسته في حوزات مشهد وقم والنجف، ثمّ انخراطه في العمل الثوري.

وهنا، أودّ الإشارة إلى مسألتين مهمّتين أسهمتا في تأسيس شخصيّة الإمام الخامنئي وهو يشير إليهما باستمرار، الأولى: اهتمامه بالمطالعة في مختلف العلوم الدينيّة والإنسانيّة والأدبيّة باللغتين الفارسيّة والعربيّة، تساعده على ذلك ذاكرته الحادّة. وأذكر هنا أنّني كنت في حضرته، وذكرت اسم أحد الكتب، فقال لي إنّه قد قرأ ذلك الكتاب قبل سبع وثلاثين سنة، وأخذ يذكر بعض التفاصيل من هذا الكتاب.

أمّا المسألة الثانية:
فهي حادثة يذكر سماحته أنّها تركت عليه آثاراً إيجابية، ففي بداية سفره إلى قم للدراسة في حوزتها، أصيب والده بالمرض، فوجد نفسه مخيّراً بين البقاء في قم، وبين قطع دراسته لخدمة والده حتّى يشفى، ففضّل خدمة والده. ويرى سماحته أنّ هذه الحادثة منحتْه شرف خدمة والده وسبّبت له التوفيق والتفوّق في دراسته والارتقاء في الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية. وطبعاً يجب ألّا ننسى صفاته الأخرى من ذكاء حادّ يشعر به كلّ من يلتقي به، إضافة إلى الالتزام والحرص على المبادئ وعدم التهاون فيها، وأيضاً الشموليّة في تفكيره وشخصيّته، وما يتميّز به من عاطفة جيّاشة واهتمام بالآخرين.

*هل كان لاعتقال الإمام الخامنئي دام ظله أثر في تكوين شخصيته ومواقفه؟
دون شكّ، فسماحته اعتقل في سجون نظام الشاه خمس أو ست مرات، إضافة إلى نفيه داخل إيران. وهو ما أسهم في تعرّفه إلى شرائح المجتمع الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة، وأثّر في تكوين شخصيّته.

*انطلاقاً مما تفضّلت به سعادة المستشار، أنتقل للحديث عن رؤية الإمام الخامنئي في الصفات التي يجب توافرها في الشخصيّات القياديّة.
يؤكّد سماحته خلال خطاباته ولقاءاته على قيم، منها:
1- عدم المجاملة في مجال المبادئ والقيم.
2- أهمية الارتباط بالتسديد الإلهيّ.
3- ضرورة ميْل العلماء والمسؤولين إلى البساطة في الحياة والعيش كسائر الناس، وهو ما يجسّده في حياته الخاصة من بساطة وتواضع في العيش.
4- أهمية التحلّي بالبصيرة الدينيّة والدنيويّة عبر عدّة أمور، وهي: تشخيص الأولويّات، وأهميّة تمييز العدوّ من الصديق، وتشخيص مكامن الضعف في المجتمع التي يمكن أن ينفذ منها العدو، وأهميّة تشخيص آليات الحرب الناعمة، وتشخيص واجبات شرائح المجتمع الإسلامي المختلفة.

كما إنّ الإمام الخامنئي يدأب على التوقّف عند شخصيّة الإمام الخميني قدس سره كمفجّر وقائد للثورة الإسلامية ومؤسس للجمهوريّة الإسلاميّة، لاستخلاص الدروس من حياته قدس سره، وتطبيقها على الواقع الراهن. وكذلك يؤكّد سماحته خلال لقاءات بالمسؤولين على أهمية مبدأ "ولاية الفقيه"، وفي الوقت نفسه، يؤكّد على أهميّة سيادة الشعب الدينية ودور الشعب في صناعة القرار، مع تأكيده على الحكومات على ضرورة أن تكون علاقتها مع الشعب متميّزة. هذا إضافة إلى طلبه من المسؤولين الاهتمام الشخصيّ بمراسم عاشوراء ومحرّم، وأن توظّف هذه المناسبة خدمة لمصالح الأمة الإسلامية وخطّ المقاومة في المنطقة.

*انطلاقاً من تركيز الإمام القائد على مفهوم سيادة الشعب، أذكر هنا أنّ سماحته طرح مفهوم "تقدّم المجتمع" في مقابل مفهوم "التنمية"، التي لا تنظر إلى الإنسان كمقياس للتطوّر، بل لما يحقّقه الاقتصاد من أرباح في المجتمع. فماذا يعني تقدّم المجتمع؟
بالإضافة إلى تأكيده على الإنسان كلاعب أساس في صياغة عمليّة التنمية وعمليّة التقدّم الاقتصادي، يؤكّد سماحته أيضاً على دور الشعب ودور القطاع الخاص في ذلك، وعلى عدم استحواذ القطاع العام والحكومة على مفاصل الاقتصاد، وعلى إعطاء الفرص المتكافئة للجميع لكي يؤسّسوا مشاريعهم الاقتصادية. هذا انطلاقاً من رؤيته الفلسفيّة للمجتمع وللإنسان ودوره في بناء المجتمع والدولة والحضارة كخليفة لله على الأرض كما قدّمته لنا تعاليمنا الدينية. وقد استطاعت الثورة الإسلاميّة، من خلال قيادة السيّد القائد، تطبيق جزء مهمّ من هذه الحقائق المعرفيّة الاسلاميّة.

*ذكرت أنّ الإمام الخامنئي يجمع في سياسته بين الصلابة في المبادئ والعاطفة الجيّاشة، قد يُعتبر هذا نوعاً من التناقض، فكيف يجمع بينهما؟ مع ذكر بعض الأمثلة.
أرجِع إلى الوراء قليلاً، مثلاً حينما كان ضمن القيادة المؤسّسة للحزب الجمهوريّ الإسلاميّ، كان سماحته يركّز على أمور دقيقة جداً، ويواظب على عمليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أذكر أنني كنت أعمل في الحزب الجمهوريّ في العلاقات الدولية، وكنت أرتدي قميصاً بكمّ قصير، وجاء سماحته لتفقّدنا. قبل خروجه طلب حضوري إلى مكتبه ونبّهني إلى أنّه لا مانع من ارتداء الكمّ القصير شرعاً، ولكن كنخب إسلاميّة متديّنة يفضّل عدم ارتداء مثل هذه الملابس.

في موقعه كوليّ فقيه يحرص سماحته على تقديم نفسه كأب يحمي الجميع ويحافظ على مسافة واحدة من الجميع. ولكن هذا ليس على حساب المبادئ. حتّى خلال تولّيه منصب رئاسة الجمهورية، كنّا نشعر بنوع من العلاقة الأبويّة تجاهه. أنا شخصيّاً كنت أشعر بذلك. أمّا فيما يتعلّق باهتمامه بالتفاصيل، مثلاً خلال لقاءاته العامة، يحدث أن يشاهد شخصاً وسط الحشود المجتمعة فيوجّه إليه كلمة أو عبارة خاصة. اهتمامه بعوائل الشهداء، مثلاً، بالأطفال والناشئة وبالمضحّين وبجرحى الحرب، مجموعة من المشاهد التي تكونون قد شاهدتموها، تدلّ على هذه العاطفة الجيّاشة، والعاطفة المتبادلة. فالناس لا تنظر إليه كمجرّد قائد عاديّ. أذكر مثلاً خلال زيارته لمدينة "سراوان" قرب الحدود الباكستانيّة التي نفي إليها أيّام حكم نظام الشاه، خلال هذه الزيارة طلب الاجتماع بجميع أهالي البلدة الذين تعرّف إليهم خلال فترة نفيه، فبرغم ظروف النفي كان قد أقام شبكة علاقات مع عشرات الأشخاص الذين اجتمعوا والتقوا معاً، وصاروا يسترجعون ذكريات الماضي. مثلاً معروف عن السيّد القائد ممارسته تسلّق الجبال، خلال ذلك تحصل لقاءات وحوارات عفويّة مع المواطنين، وفي مرّة التقى بشاب وفتاة، فسألهما إنْ كانا متزوّجين، فذكرا أنّهما ينويان ذلك، فعرض عليهما أن يجري بنفسه عقد الزواج، وهذا ما حصل.

مثلاً لقاءاته بالمواطنين المسيحيين، وتأكيده على الاهتمام بهم، وعلى ألّا يشعروا بفوارق أو فواصل التمييز في المعاملة نتيجة أنّه مسلم وهم مسيحيّون.

*وماذا عن لقاءات سماحته بالنُخب؟ يُقال إنه يحرص على الاستماع أكثر من حرصه على الكلام.
صحيح، مثلاً هو لديه لقاءات مع الجامعيّين من الأساتذة والطلبة والإداريّين ومع الفنانين والشعراء والأدباء والرياضيّين. هو دائماً يستمع، ويطلق الحرية للكلام. وهناك حالات عرضت على شاشات التلفزيون لأشخاص قدّموا نقداً قاسياً لمسؤولي البلاد ولشخصه أيضاً، وقد قابلهم سماحته برحابة صدر. كما يُعرف عنه إضافة إلى حسن استماعه، تسجيله ملاحظات عمّا يسمعه، وذلك للردّ عليها ومناقشتها أو لمتابعتها مع المسؤولين المعنيّين. وفي بعض الحالات يعلن سماحته عن اعتذاره لعدم استمرار النقاش لضيق الوقت وعدم قدرته على التعرف إلى آراء جميع الحاضرين. وخلال لقاءات مؤتمر الصحوة الإسلامية، نزل سماحته عن المنصّة واختلط بالحاضرين. وأذكر أنّه خلال فترة علاجه الأخير في المستشفى، زاره بعض أعضاء الوفود المشاركة، والملفت هنا أنه تحدّث مع بعضهم بلغاتهم، فكلّم العربيّ بالعربية، والتركيّ بالتركية، مع سؤالهم عن تفاصيل تخصّهم، تفاصيل دقيقة.

*أختم بمسألة إنسانيّة: القيادة والرؤية إلى الآخر المختلف، عبر الرسالتين اللتين وجّههما الإمام الخامنئي إلى الشباب الغربيّ بعد المجزرتين اللتين ارتكبتهما داعش في باريس، وكيف تجسدّت فيهما الرؤية الإنسانيّة والمبدئيّة لسماحته.
أولاً: أعتقد أنّه من الخطأ ربط هاتين الرسالتين بالمجزرتين، فإذا رسمنا الخط البيانيّ لأقوال سماحته عن العلاقة مع الغرب، نرى أنه بدأ بتشخيص قضية الغزو الثقافيّ، ثمّ أسماه "الناتو الثقافيّ" للدلالة على وجود خطة من بعض الدول المتحالفة على ذلك. وبعد بيان المشكلة انتقل إلى كيفية مواجهتها، ومواجهة الحرب الناعمة، وصولاً إلى ما طرحه مؤخّراً عن ضرورة بناء الحضارة الإسلاميّة الحديثة التي يمكن أن تدير مجتمعاتنا المعاصرة وتحلّ مشاكلها.

النقطة الثانية هي أنني مطّلع شخصياً على مبادرة الإمام الخامنئي لمخاطبة الشباب الغربيّ. وهي لم تكن وليدة أيّ نصيحة أو تقارير قدّمت لسماحته، بل كانت مبادرة شخصيّة منه. الرسالتان طبعاً تتحدّثان عن ألم مشترك، وهذا يدلّ على دقّته في كيفية مخاطبة الآخر. والرسالة الأخيرة تدعو لقراءة صحيحة ودقيقة للإسلام من منابعه. كما قدّم تشخيصاً لأسباب ما يعانيه العالم المعاصر من إرهاب وتكفير، حيث ذكر أنّ العالم الإسلاميّ هو ضحية الغرب عبر إثارة الإسلاموفوبيا (الرُهاب من الإسلام)، ويقدّم الأدلة عن دعم الغرب للمجموعات الإرهابية التي تدّعي الإسلام، ويتحدّث عن إرهاب الدولة، مشيراً إلى جرائم الكيان الصهيونيّ تجاه الشعب الفلسطينيّ وشعوب المنطقة. مع ملاحظة أن إحدى هاتين الرسالتين تضمّنت مقدّمة وصوراً وجدانية، ويمكن أن نعتبرها أنموذجاً للصلابة في المبادئ الممتزجة بالعاطفة في شخصية الإمام الخامنئي، ودعوته إلى الرجوع إلى الضمير وإلى أنّ الإنسان هو المركز في أيّ مشروع حضاريّ.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع