فاطمة برّي بدير(*)
*مواقف وآراء
- كان الجاحظ يقسّم الشعراء إلى خمس طبقات من حيث تعريفه وتمييزه لجودة كلامهم. فقال في تمييز طبقات الشعراء: "يُقال للمجيد فحْل، ولمن دونه مفلق، ثم شاعر، ثم شويعر، ثم شعرور".
- وقيل: الأشياء كلّها ثلاث طبقات، جيّد ووسط ورديء، فالوسط من كلّ شيء أجود من الرديء عند الناس، إلّا الشعر فإنّ رديئه خير من وسطه، ومتى قيل: "شعر وسط" فهو عبارة عن الرديء. وقيل: الشعر ثلاثة أصناف: شعر يُكتب ويُروى، وشعر يُسمع ويُكتب، وشعر لا يُكتب ولا يُوعى.
*كيف يقضي الأحمق على الشيطان؟
قال بعض القصّاصين: يا معشر الناس إنّ الشيطان إذا سُمّي على الطعام والشراب لم يقربْه فكلوا خبز الأرزّ المالح ولا تسمّوا فيأكل معكم. وقبل أنْ تشربوا الماء سمّوا؛ حتى تقْتلوه عطَشاً.
*استعمال "إنْ شاء الله"
ورد في مرويّات التراث أنّ رجلاً خرج إلى السوق يشتري حماراً، فلَقيه صديق له، فسأله: إلى أين تمضي؟ فقال: إلى السوق لأشتري حماراً. فقال: قل: إنْ شاء الله. فقال: ليس ها هنا موضع إنْ شاء الله، فالدراهم في كمّي، والحمار في السوق.
فبينما هو يطلب الحمار سُرقت منه الدراهم فرجع خائباً، فلقيه صديقه فقال له: ما صنعت؟
فقال: سُرقت الدراهم إن شاء الله!
فقال له صديقه: ليس ها هنا موضع إنْ شاء الله.
(من كتاب أخبار الحمقى والمغفّلين لابن الجوزي)
*قاطع الطريق: أستاذ معلّم
قال الغزالي: مِن أساتذتي الذين استفدت منهم قاطع طريق، خرج علينا مرة فأخذ كلَّ ما في القافلة، وأخذ (تعليقتي) - وهي دفتر المذكّرات الذي كان يكتب فيه ما يسمعه من العلماء-.
قال: فجعلت أتوسّل إليه وأقول: أنا لا آسف على مال ولا متاع، ولكن تعليقتي.
قال له: وما تعليقتك؟
قال الغزالي: دفتر فيه علمي كلُّه.
فضحك قاطع الطريق وقال: ما هذا العلم الذي يذهب منك إن ذهب دفتر؟
قال الغزالي: فانتبهت لهذا الدرس، وجعلت أحفظ كل شيء أسمعه؛ لئلّا يذهب إن ذهب الكتاب.
ومن هنا قالوا:
ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ | ما العلم إلّا ما حواه الصّدْرُ |
وقيل أيضاً: العلم في الصدور وليس في السطور. العلم بالعقل وليس بالنقل.
*في تفضيل الصمت على الكلام
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "رحم الله عبداً صمَت فسَلم أو قال خيراً فغنم". فجعل الصمت أفضل، لأنّ السلامة أصل والغنيمة فرع. وقد قال الشاعر:
أقلل كلامك واستعذ من شرّه | إنّ البلاء ببعضه مقرون |
وقال آخر:
مُت بداء الصمت خير | لك من داء الكلام. |
*شعر بالمقلوب يقلب المعنى أيضاً!
هذه أبيات معروفة ومشهورة بأنها إذا قُرئت مِن اليمين فهي مدحٌ وثناء، وإذا قرأتها مِن اليسار تُصبح هجائيّة:
- من اليمين:
حلموا فما ساءت لهم شيمُ، | سمحوا فما شحت لهم مِننُ، |
سلموا فلا زلَّت لهم قدمُ، | رشدوا فلا ضلَّت لهم سُنن. |
-من اليسار:
شيمٌ لهم ساءت فما حَلموا، | مننٌ لهم شحَّت فما سمحوا، |
قدمٌ لهم زلَّت فلا سلموا، | سننٌ لهم ضلَّت فلا رشدوا. |
(ناصيف اليازجي)
*الصمت والكلام تفضيل وتمدّح
قيل لبعضهم: السكوت أفضل أم النطق؟ فقال: السكوت حتّى يحتاج إلى النطق، فإذا احتيج إلى النطق فالسكوت حرام. وقيل ليونس بن حبيب: السكوت أفضل أم الكلام؟ فقال: السكوت عن الخنا أفضل من الكلام بالخطأ. وقد قال الشاعر:
والصمت أزين بالفتى | من منطق في غير حينه. |
وقيل: ربما كان الصمت أبلغ من الإبلاغ في النطق مع عدم إصابة الفرصة.
ويقول ابن الرومي:
ناهيك من صمتٍ بلا عيّ به | وكذاك من لسنٍ بغير سفاهِ |
ملكت سكينته عليه أمره | فكأنّه ساه وليس بساهِ |
وقال ابن علقمة:
صموت في المجالس غير عيّ | جدير حين ينطق بالصواب |
*نحن نقرأ لكم
من رواية (ثلاثيّة غرناطة) التي تتحدّث عن سقوط الأندلس للكاتبة والروائيّة المصرية الدكتورة "رضوى عاشور":
"- ما الذي أصابك يا ولد، قلْ صباح الخير!
لكنّ الولد كمن فقد عقله راح ينادي جدّه بأعلى صوته، أتى "أبو جعفر" مهرولاً. قال نعيم:
- إنّهم يكدّسون ما استولوا عليه من كُتب في باب الرملة.. إنّهم سيحرقون الكتب!
... في ساحة باب الرملة رأَوْا توافد العربات تجرّها الثيران والبِغال والحمير... ثلاثة من الحرّاس الجالسين فوق الكتب يشدّون قاماتهم ويشرعون في العمل، تسكت الكتب على الأرض وترتطم ببعضها، مغلقة أو مفتوحة أو أشلاء أو مِزقاً تتطاير كأوراق الخريف في الفضاء قبل أن تحطّ في هدوء وسكون.
تابعوا تساقط المصاحف الكبيرة والصغيرة، تنفصل عنها أغلفتها الجلدية المزينة بالزخارف والخطوط، تابعوا المخطوطات المفروطة، قديمها وجديدها، والأوراق المفردة تحمل الكلام نفسه منثوراً ومتتابعاً سطراً بعد سطر أو منظوماً في كل سطر شطْرتان.
كان "أبو جعفر" يحدّق في المشهد ثم يغضّ الطرف، ثم يعود يحدّق ويتمتم بكلام غير مفهوم، صوت "سليمة" يعلو ملحّاً مكرراً السؤال: لن يحرقوا الكتب يا جدّي أليس كذلك؟ لا يمكن أن يحرقوا الكتب!
قفل "أبو جعفر" عائداً إلى "حي البيازين" يبصر الأهالي السائرين حوله ولا يرى سوى النار المستعرة. يسعُل ويحكّ جفنيه، كانت ساقاه واهنتين بالكاد تحملانه، تعثّرت قدمه وسقط على وجهه، قام وواصل الصعود حتى وصل إلى ساحة مسجد "البيازين" الذي صار كنيسة "سان سلفادور" وجلس بلا حراك حتى غروب الشمس.
... وقبل أن يأوي "أبو جعفر" إلى فراشه تلك الليلة، قال لزوجته: "سأموت وحيداً.." ومات".
(*) كاتبة وإعلامية، أستاذة في الجامعة اللبنانية.