السيد جعفر مكي
تكاد تتفق جميع الأديان البشرية على فكرة الأمل المنقذ والمخلص في أخر الزمان، الذي ينقذ البشرية من معاناتها، وينتشلها من بين أنواء الشقاء، ويزيح عن كاهلها ثقل الظلم والجور، ويريحها أيضاً من انعكاسات التوتر والقلق بين أفرادها بفعل تسلط الجبابرة، وعجز الأنظمة الوضعية عن إيجاد حلول ناجعة لجميع مشاكل الإنسانية.
وإن المتتبع لفكرة الأمل والمنقذ والمخلص في التراث الإنساني، سيجد لها جذوراً ضاربةً في التاريخ، وبما أن الشعوب تعبر عن آمالها وتطلعاتها فقد يتفق الكثير من النتاج الأدبي على هذا الحلم الذي كان وما زال يراود البشرية. فقبل الميلاد، حاول الفيلسوف أفلاطون أن يرسم معالم وملامح هذا الحلم، في كتابه (المدينة الفاضلة) وبعد الميلاد تحدث الطبيب والمنجم الفرنسي اليهودي نوسترا داموس في كتابه (المئويات) عن هذا المنقذ والأمل والذي يستفيد منه الغرب في صراعاته السياسية والعسكرية والأمنية، كما يشهد الحال بذلك. كما أن الكاتب والمسرحي الفرنسي (صمويل بيكت) عبر عن هذه الفكرة الإنسانية في مسرحيته الشهيرة (في انتظار غودو). وإذا كان هذا شأن الأدب والتراث الغير إسلامي فما هو الفكر الديني والأصولي عند الغرب عن الأمل والمنقذ والمخلِّص...
* الأمل والمنقذ في الكتاب المقدس:
تكفلت الكتب السماوية وحتى ما طاله التحريف منها في نشر فكرة الأمل والمنقذ في آخر الزمان، والناظر إلى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد أي التوراة والإنجيل، سيقف على الكثير من الكلمات، والفقرات، والجمل، التي تحلق في فضاء المنقذ للبشرية والمستقبل المنير بنور العدل والقسط، وسوف نقتصر في هذه العجالة على سِفر إشعياء في العهد القديم والذي يحمل نصوصاً كثيرة ولا سيّما في تسمية الأنبياء والكتب (نبييم و كتوبيم). ويُعّرف إشعياء بن آموص بأنه أحد كبار أنبياء مملكة إسرائيل الأربعة، ويتميز سفره بمميزات كثيرة أهمها فيما يتعلق بفكرة الظهور والخلاص مكرساً في مجمله لرسم مشاهد مستقبلية لما قبل عصر الظهور وبعده والحياة والنعيم فيه.
* سِفر إشعياء وبعض النصوص الإسلامية:
إن أبرز ما في نصوص سفر إشعياء هو تصويره للمخلص والمنقذ بنفس الألفاظ أو التعابير أو المضامين التي يستخدمها التراث الإسلامي ولا سيما على نطاق الرواية والحديث، من الحديث عن مقدمات الظهور، وعلاماته، وحياة العالم بعد ذلك بشكل لا يكاد يخرج عن سياق السنّة النبوية والتراث الإسلامي في الاتجاه العام لفكرة المنقذ والمخلص وإليكم بعض منها:
تقول التوراة: "فيقضي بين الأمم، وينصف لشعوب كثيرين" (إشعياء، 4-2). ويقول الرسول صلى الله عليه وآله: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطوَّل اللَّه ذلك اليوم، وبعث رجلاً من أهل بيتي، يواطىء اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"(1). فالقاسم المشترك في النصين أن المنقذ والمخلِّص سيحقق العدالة للبشرية. تقول التوراة: "يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالانصاف لبائسي الأرض" (إشعياء، 4 - 11). ويقول الرسول صلى الله عليه وآله: "يملأها عدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً"(2). فالمهمة هي إحقاق الحق، والحكم بالعدل والإنصاف. وتقول التوراة: "فإذا هم بالعجلة يأتون سريعاً" (إشعياء 26/ 5). ويقول الرسول صلى الله عليه وآله: "فأتوه ولو حبواً على الثلج"(3). وفيها دعوة واضحة وسريعة للالتحاق ومناصرة المخلص والمنقذ.
وتقول التوراة: "في ذلك اليوم، يكون غصن الرب بهاءً ومجداً، وثمر الأرض فخراً وزينة" (إشعياء، 2 - 4). ويقول الرسول صلى الله عليه وآله: "يُسقط اللَّه الغيث، وتُخرج الأرض نباتها، وتعظم الأمة وتنعم أمتي نعمة لم ينعموا بمثلها"(4). ووجه التشابه هنا هو الخصب والازدهار والنعمة العظيمة يوم الظهور. وتقول التوراة: "وأعيد قضاتك كما في الأول، ومشيريك كما في البداءة، بعد ذلك تُدعين مدينة العدل القرية الآمنة" (إشعياء، 26 / 1). ويقول الرسول صلى الله عليه وآله: "ويسيطر العدل حتى تكون الناس على مثل أمرهم الأول"(5). والدلالة هنا هي إقرار العدالة، وعودة الإنسان إلى فطرته السليمة كما كان في الأول. وتقول التوراة: "صارت فضتك زغلاً، وخمرك مغشوشة بماء"، "وارد يدي عليك، وانقي زغلك كأنه بالبورق، وأنزع كل قصديرك، وأعيد قضاتك كما في الأول" (إشعياء، 26 -25 -22 / 1). ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لينزعن عنكم قضاة السوء، وليعزلن عنكم أمراء الجور، وليطهرنّ الأرض من كل غاش"(6). ويشترك النصان في أن المنقذ والأمل سيقضي على قضاة السوء وأمراء الجور ويمحو ظاهرة الغش. وتقول التوراة: "ويل للمبكرين صباحاً يتبعون المسكر، للمتأخرين في العتمة تلهيهم الخمر" (إشعياء، 11- 5). ويقول الرسول صلى الله عليه وآله: "يبطل في دولته الزنا وشرب الخمر والربا ويقبل الناس على العبادات"(7). والمعنى هنا واحد في إبطال المحرمات وعودة الناس إلى دور العبادة.
(1) بشارة الإسلام، ص59، وينابيع المودة، ج3، ص166.
(2) الاختصاص، ص208، والبحار، ج51، ص91.
(3) عيون أخبار الرضا، ج2، ص60، ومنتخب الأثر، ص143.
(4) البيان، ص73، والملاحم والفتن، ص57.
(5) منتخب الأثر، ص478.
(6) البحار، ج52، ص225 224.
(7) منتخب الأثر، ص308، والملاحم والفتن، ص54.