غالباً ما يتمّ التعبير عن سيّد الشهداء أبي عبد الله
الحسين عليه السلام بـ"ثار الله"؛ أي الشخص الذي يكون الله ديَته – معنى ثار الله
أن لديَته من العظمة ما لا يوازيها قدراً إلا الله- وقد ورد هذا التعبير نفسه بحقّ
أمير المؤمنين أيضاً، حيث تقرأون: "يا ثارَ اللهِ وَابنَ ثارِه"(1). وقوله:
"وَابنَ ثارِه" يعني أنّ أمير المؤمنين أيضاً يتحلّى بالمرتبة نفسها والعظمة
نفسها في هذا الجانب. فقد تجلّت من خلال هذه العبارة عظمة هذا الشهيد العظيم.. شهيد
المحراب، وشهيد سبيل الحقّ، وشهيد الاستقامة.
*تركوا الأهل والعيال.. واستشهدوا بغربة!
اليوم قد طُرحت قضية شهداء الدفاع عن حريم أهل البيت عليهم السلام، وهي واحدة من
أحداث التاريخ العجيبة. ففي فترة الحرب كنّا نحثّ الشباب ونشجّعهم على التوجّه إلى
ساحات القتال، وكانوا يلبّون دعوتنا ويهبّون إليها بخطاب واحدٍ للإمام الخمينيّ قدس
سره. اليوم لا نشجّعهم بالقدر نفسه... ومع ذلك، فما أقوى هذا الدافع! وكم هو شفّاف
هذا الإيمان الذي يدفع بالشابّ من إيران ومن أفغانستان ومن بلدان أخرى إلى النهوض
والمبادرة، تاركاً زوجته الشابّة، وطفله الصغير، وحياته المريحة، وقاصداً بلداً
غريباً وأرضاً غريبة، لكي يجاهد في سبيل الله وينال الشهادة. فهل هذا أمر بسيط؟
إنّها أمورٌ مدهشة! لقد شهد تاريخ الثورة الإسلاميّة في جميع مراحله هذه العجائب
الصانعة للتاريخ.
ولا نبالغ حين نقول إنّ بقاء الثورة وأمن البلاد وتقدّمهما من جميع الجوانب
مرهونان بصبر عوائل الشهداء الكرام واستقامتهم وبدماء أولئك الشهداء الأبرار.
*الاستمداد من أرواح شهدائنا..
إنّ إحدى أدوات التوسّل والتقرّب إلى الله، هي التوجّه إلى أرواح الشهداء المطهّرة.
ولو أردنا أن تكون لنا دعوة مستجابة، علينا أن نستشفع بالأرواح المتعالية، وأن
نجعلها شفيعة لنا عند الله، ومنها أرواح شهدائنا الأعزاء. وهذه الفرصة متاحة لعوائل
الشهداء كي يستمدّوا من أرواح شهدائهم الأحباء الذين تعلّقت قلوبهم بهم، للتقرّب
إلى الله.
إنّ سيرة هؤلاء الشباب فرداً فرداً، تلهمنا الدروس. أفعال كل واحد من هؤلاء الشباب
الذين نالوا الشهادة، وأقوالهم، وحركاتهم، نافذة مشرعة نحو عالمٍ من المعرفة، توقظ
الإنسان وتجعله بصيراً واعياً.
*إرادات صنعت الثورة والجمهورية!
أنا أعتبر أنّ قضية شهداء الدفاع عن حرم أهل البيت تنطوي على ثلاثة أبعاد:
الأول: هو صبر الشهيد نفسه، والدافع والإيمان الذي يتحلّى به.
الثاني: هو صبر العوائل وتحمّلها، إذ كان بمقدور هذه الزوجة الشابة أن تعمل
على عدم ذهاب زوجها إلى ساحة القتال، وكان بمستطاع هذا الأب وهذه الأم أن يقفا
عائقاً أمام التحاق ولدهما الشاب، ولكنهم صبروا على ذهابه، وكذلك صبروا عند عودة
جثمانه الطاهر، وصبروا ما بعد فترة استشهاده كذلك.
الثالث: هو الحادثة ذاتها التي تسطّر تاريخ الثورة الإسلامية، والنظام
الإسلاميّ؛ ذلك أنّ هذه المحفّزات، وهذا الإيمان، وهذه القدرات الروحيّة، وهذه
العزائم والإرادات هي التي صنعت الجمهورية الإسلاميّة.
المهمّ أن يتمتّع المجتمع بدعائم واقية، تمضي به قُدماً، وتصونه أمام الأحداث،
وتحافظ عليه كالصخرة الصلبة. هؤلاء الشهداء والعوائل والمضحّون والمؤثِرون على
أنفسهم، هم الذين يمثلون تلك الدعائم الصخرية. بفضل هؤلاء أيضاً، نتغلّب على
التحدّيات المختلفة.
*نتقدم.. مع القيم والروح الثورية
لعلّي كرّرتُ هذا الكلام وأعيده أيضاً: كلّما كنّا نعتمد على الثورة وعلى الروح
الثوريّة، كنّا ننجح ونتقدّم، وحيثما قصّرنا في التمسك بالمبادئ والقيم، كنّا نفشل
ونتخلّف، هذه هي المعادلة. إن سبيل تقدّمنا هو في إحياء الروح الثورية وإحياء روح
الجهاد.
وللجهاد ساحات كثيرة، وبالطبع فإن كلّ ساحات الجهاد تتّسم بالخطر. انظروا إلى شهداء
التقدّم النوويّ، كيف تصدّوا للعمل في ساحة العلم، ولكنهم رغم ذلك تعرّضوا لحقد
الأعداء. هذا هو الجهاد.
﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى
الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(النساء: 95)، وهذا هو السبب الذي أدّى إلى أن يجعل الله
تعالى للمجاهدين فضلاً ودرجة عالية. فكم سنعيش نحن في هذه الدنيا؟ مرّ على الدنيا
مليارات السنين قبلنا وربّما ستبقى كذلك بعدنا، نصيبنا أنا وأنتم ما بين هذه
المليارات، ليس سوى خمسين أو ستين أو سبعين عاماً، فلا بدّ لنا خلال هذه المدّة أن
نغتنم هذه الفرصة، وأن نعدّ أنفسنا للحياة الحقيقية، فـ﴿ إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ (العنكبوت: 64). بعضهم يجاهد ويوصلهم جهادهم إلى المقامات
العليا، ولا يبني لهم آخرتهم فحسب، بل يبني دنيا الآخرين ويصوغها ويقوّيها أيضاً،
وعندها فإنّ نصيب الجهاد ونصيب الشهداء هو
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران: 169–170).
هكذا هي القضية؛ وهذه هي بشرى الله بأنّ هؤلاء أحياء عند ربّهم، يحظون بلطف الله
ورزقه، ويقولون لي ولكم: إن المنزل الذي ستبلغونه إذا ما سرتم في هذا الطريق، لا
خوف فيه ولا حزن:
﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ﴾.
أما أنتم العوائل فقد تحمّلتم العناء، وأصابكم الحزن والأسى، ولا ضير في ذلك،
فإنّ فقدان الشابّ صعبٌ جداً على عائلته، ولكن اعلموا أنهم يعيشون في بهجة وسرور،
ويستظلّون بظلّ النعيم الإلهيّ.
(*) كلمة الإمام
الخامنئي أثناء لقائه جمعاً من عوائل الشهداء المدافعين عن الحرم وعوائل شهداء حزب
الجمهورية الإسلامية 25/6/2016 م في حسينية الإمام الخميني قدس سره.
1- الكافي، الكليني، ج4، ص575.