أبو كميل
إنّك تصدقينني ... وإن لم يصدقني أحد. فأنت أمّي التي ربتني دون أن تعلّمني كذبة واحدة. تعلمين أنّني لا أحتاج إلى الكذب، ولِمَ الكذب؟ أنا أقول الصدق ولا أبالي ... وكم من صدقٍ لم يتكلّم به بعد. ثمّ لِمَ هذا الإلحاح في إيمان الناس بالأمر؟ ليس من العجب أن يصدق الناس ما يرون، إنّما العَجَبُ في تصديقهم ما لا يرون.
ولكن ما يهمني هو أن تصدقيني أنت في هذه الواقعة. أنتِ التي صاحبتني في كلّ الأحوال، وعلمتِ كلّ آلامي عندما قالت معاونة ناظرة المدرسة: "ليوقّع آباؤكنّ شهادة الامتحان" عندها رفعت يدي سائلة:"لو لم يكن أب الطالبة موجوداً فماذا تفعل؟" سألت: "والأم ألا يمكن أن توقعها؟" فاغتاظت وصاحت في وجهي، بلا سبب، وظنّت أنّني حمقاء مغفّلة ولا أفهم الكلام البسيط، معلنةً عن ظنّها هذا بصوتٍ عالٍ أمام التلميذات ... فضحكن منّي. أوضحت لها أنّني قد فهمت كلامها ولهذا سألت، ومن الممكن أن أكون قليلة الشعور ولكني لست عديمته، وأنّني قد عشت عشر سنوات في هذا العالم، درست أربع سنوات منها وفزت بدرجاتٍ عالية، والإنسان الأحمق لا يستطيع أن يدرس أربع سنوات وتكون علاماته جيدة. إلاّ أنّ كلامي هذا زادها غيظاً فقالت له:"يا لك من حمقاء"، وأخرجتني بصورة مذمومة، وعاملتني معاملة الوحوش. أمّا معلّمتي التي كانت حاضرة فلم تدافع أو تتفوّه بأيّ كلمة في تكذيبي أوتصديقي.
عندما رجعت إلى البيت – إن كنت تذكرين يا أماه – قلت لي: "لِمَ أراك حزينة؟" فلمْ أُجيبك حينها، لأنّني لم أكن أودّ إزعاجك، حاولت أن أخفي ما كان في صدري من حزن. ولكن قلبي كان منكسراً بحيث لا يهدئه حتّى البكاء. ولم يكن لي عملٌ سواه. وما الذي ينغي أن أفعله؟! صعدتُ إلى الغرفة العُليا حيثُ كانت صورة أبي، أخذت الصورة عن الرفّ، وضعتها على الأرض، وضعت شهادة المدرسة أمامها، وقلت:"إمض"، لم أقل من فضلك، قلت: "يجب أن تمضي عليها، يجب أن ترى درجات طفلتك، ترى ماذا فعلت طيلة السنة التي لم تكون موجوداً فيها"؟! وقلت: "هذا الوجوب ليس أنا الذي قلته، المعلمة هي التي فرضته وقالته، فهي لا تفهم الكلام، وأنا أيضاً لا أفهم الكلام. يجب أن تمضي عليها. ألستَ شهيداً حياً، أظهر لنا حياتك وأدّ واجبات الأبوّة. كان يمكنني أن أقول منذ البداية – مثل الآخرين – أن ليس لي أب، أبي استشهد، وأريح بالي وبال المدرّسة، ولكنّني لم أفعل هذا، فلو كنتَ ميّتاً لفعلت، ولكنّك استشهدت. ما كنتُ أريد أن يحترموني ويعززوني لكوني يتيمة، وما كنت أود أن أستغل دمك لأزداد شرفاً، لم أكن أريد أن يكون لي نصيب من وجاهتك، كنت أريد أن أكون لك زيناً، لذلك حاولت ألاّ أحدث أي مشاكسة لكلي لا يطلبوا حضورك إلى المدرسة، ويعرفوا بعدها أنّك قد استشهدت، فيتجاوزا عنّي ويعتذروا إليّ. هذا لا يليق ببنت الشهيد".
ولا أذكر بعدها ماذا قلت لوالدي، ولكننّي أذكر أنّي كنت أبكي بشدّة، وأطلب من أبي أن يرى درجاتي ويمضي شهادتي. لا أدري هل نمت أم لا، ولكنّني أحسستُ برائحة عطرة تنتشر في الهواء وتزداد لحظة بعد أخرى تضوعاً. أمّاه، لا أستطيع أن أصف أيّ رائحة كانت، رائحة شبيهة برائحة الورد الأحمر، إلاّ أنّها ألطف من ذلك بكثير، رائحة لم أشمّها أنا ولا أنت ولا أحد آخر إلى الآن. تعلمين كم أُحِب رائحة الورد الأحمر، ولكنها لم تكن لتقارنها رائحة الورد الأحمر. إنّني لا أعلم كيف تكون حالة السّكر، ولكنّني أعتقد أنّي سكرت بهذه الرائحة... سكرت غاية السكر. ثمّ فُتِح الباب وإذا ببياضَ كالضباب يملأ الباب كأنّه غمامة. تشعرين بلطافتها دون أن تلمسيها. انبهرت بالبياض، ورأيت أبي وسط الباب بلباسٍ أبيض طويل، وجهه كان يتلألأ كالبدْر، لا أتذكّر لباسه كان أشدّ نوراً أم وجهه. وعنقه، مكان إصابة الشظية، كان أكثر تلألؤاً وكان يضيء سائر وجهه وجسده.
حتماً رأيتِ الهلال ... ورأيتِ كيف يضيء ما حوله، هكذا كان عنق أبي مثل الهلال، مثل قلادة تتلألأ، كانت بشرةُ وجهه لطيفة بحيث يستحيف الإنسان أن يقبّلها. ثمّ تقدّم أبي من الشهادة... ومضى عليها!
كيف أستطيع أن أدعَ أبي يذهب بهذه السرعة. كان لديّ عالمٌ من الكلمات لأقوله. ولكنّني حتّى ذلك الوقت لم أقل كلمة واحدة منه. تعلّقت بردائه الأبيض الذي كان ألطف من الحرير، وقلت:"لا تذهب، بابا، نحن نشعر بالوحدة كثيراً".
رفع يدي عن ردائه وأخذها ضاغطاً بين يديه وقال: "أنتم لستم وحيدين عزيزتي مريم، إنّ الله معكم، وإذا كنتم مع الله فلن تكونوا وحيدين أبداً، وأنا لم أذهب إلى مكان بعيد، إنّني موجود معكم وبينكم. إسألي أمّك، هل مرّت ليلة لم ترني فيها ولم نتحدث سوية". قلت: "إذن ضع حلاً لأختي الصغيرة ناهية. فإنّها صغيرة لا تعي مثل هذه الأمور، وهي إلى الآن لا تعرف أنّك استشهدت، تظنّ أنّكِ قد سافرت. وأكثر الأحيان تجلس عند الباب تنتظرك. لقد انتظرتك طويلاً عند الباب غروب البارحة حتّى غلبها النوم أخيراً. إنّها مع صوت كلّ جرسٍ تقفز من مكانها كمن صعق بالكهرباء، وتدعو الآخرين ليذهبوا معها إلى الباب، وهي تتعجب من عدم نهوض الآخرين من أمكنتهم، فتقول ساخطة: "لماذا تقعدون، لقد جاء أبي العزيز، قوموا وافتحوا الباب". فترد أمي قائلة: "إنّ أباك يحمل مفتاحاً وهو لا يقرع الجرس". فتضرب رجلها بالأرض وتقول: "لعله يحمل شيئاً في يديه وإذا كان مشغول اليدين فإنّه حتماً سيدقّ الجرس".
عندما قلت هذا لأبي اجتمعت الدموع في عينيه وقال: "أعلم عزيزتي مريم، أعلم". قلت: "أبي العزيز لقد اطمأنّ قلبي بإمضائك على شهادتي المدرسية، فافعل لنا شيئاً آخر". فرفع رأسه متعجباً، ونزلت قطرة دمع شفافة من مؤخر عينه وقال: "أيّ عمل عزيزتي"؟ قلت: "امضِ على قلب ناهية أيضاً لكي يستقر ويطمئن".
ضحك أبي أثناء بكائه وقال: "إنّ الله هو الذي يمضي على قلبها". ثمّ قام بهدوء وخفّة بحيث لم أشعر أصلاً، وفجأة، عدتُ إلى نفسي فرأيت أنّ محلّه خالٍ، ركضت نحو الباب.. فتحته وصحت: "أبي العزيز ... أبي العزيز..." ولكن أبي كان قد ذهب، وكنتِ أنتِ تصعدين على السلّم..
والآن... هذه هي الشهادة وهذا إمضاء أبي، وهذه رائحته أيضاً لا زالت موجودة.