إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد

منبر القادة: الكوفة وخيارات الحسين عليه السلام(*)


الشهيد الشيخ راغب حرب رحمه الله

ما هي الأسباب التي دعت الإمام الحسين عليه السلام إلى اختيار الكوفة لتكون مكان الثورة ومنطلقها؟

على الرغم من الصورة السيئة التي يملكها الناس عن هذه المدينة قديماً وحديثاً، أودّ في البداية القول: إن اختيار الإمام الحسين عليه السلام الكوفة، لم يكن ناشئاً أبداً عن كونها هي مصدر الكُتب التي وصلت إليه، وقد أخذ الإمام الحسين عليه السلام قرار الرفض بمبايعة يزيد [بن معاوية]، وخاطب واليه [في] المدينة بأنّه هو أحقّ بالبيعة وأحقّ بالخلافة، وكان رَفْضه عليه السلام للبيعة قبل وصول أيّ كتاب إليه، والسيرة الحسينية واضحةٌ في هذا الشأن.

*الكوفة قرار الحسين عليه السلام
اختيار الحسين عليه السلام الكوفة كان عن قرار، سواءٌ أرسلوا الكتب أو لم يرسلوها. والسبب هو أن الكوفة آنذاك كانت أكثر أمصار المسلمين قابليةً لاستيعاب الثورة وللتفاعل معها، وكان فيها حالة وعيٍ ثوريّ، وصلت إلى حدّ أن القناعات العقلية للثورة كانت قناعاتٍ عامة، وأنّ الاستعداد النفسي، بمعنى حبّ الثورة وتمنّي أهلها أن يكون أحدهم في صفوفها، كان شعوراً عاماً. وقد نشأت حالة الوعي الثوريّ في الكوفة جرَّاء تأثير عمل أمير المؤمنين عليه السلام، وحُكم أمير المؤمنين عليه السلام للكوفة.

*مركز حُكم أمير المؤمنين عليه السلام
فالكوفة حُكمت من قِبل عليّ عليه السلام، وكانت مركزاً لحكومته عليه السلام التي قاربت الخمس سنوات. ورغم ذلك، لم يكن المظهر العام للتأثّر بحُكم عليّ عليه السلام عند أهل الكوفة حسناً، كما يذكر أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في خطبته المعروفة بخطبة الجهاد: "لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم عليَّ رأيي بالخذلان والعصيان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالبٍ رجلٌ شجاع ولكن لا علم له بالحرب"(1)، إلى آخره. هذه المقالة كان يسمعها الناس، فترتكز في أذهانهم صورة منهج علي عليه السلام، أو صورة الكوفة، من خلال الشعب غير المؤهّل لاستقبال هذا المستوى من التغيير ومن العمل الذي قام به أمير المؤمنين عليه السلام. لكن، لا بدّ من القول إنّ العمل التغييريّ: إصلاح المجتمعات، وتغيير عقليّتها، وصُنعها من جديد، ليس أمراً تظهر نتائجه بسرعة، وإنّما لدورة المجتمع زمن، كما إن لكل دورةٍ من دورات الحياة زمناً، سنّة الله هذه هي في كلّ الخلق وجوداً وحياةً.

*شهدوا الإسلام في سلوك الحاكم
لله سننٌ لا يمكن لأيّ قوةٍ في الدنيا أن تتجاوزها. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم منبّهاً الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يستعجلون نصر الله: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ (الأنعام: 34). هذه كلمات الله، هذه سنّة الله التي لا مبدّل لها. أمير المؤمنين عليه السلام عاش في الكوفة ما يقارب الخمس سنين، رأى الناس فيها الإسلام في سلوك الحاكم، كيف يعيش بين الناس، وكيف لا يخون الله، ولا يخون الناس في أموالهم وأعراضهم ودمائهم. رأوا علياً عليه السلام الذي قال عن ثوبه يوماً فيما معناه: "إني رقّعته حتى استحييت من راقعه". ويقول ما معناه: "والله لقد دخلت إلى مِصْركم براحلتي ورحلي وغلامي فلان، فإنْ خرجت عنكم بغيرهم، فأنا خائن".

عليٌ عليه السلام كان يعمل بمبدأٍ إسلامي: كونك مسؤولاً، يجب أن لا تشبع حتى يشبع من أنت مسؤولٌ عنه. كونك مسؤولاً عن أمة ينبغي أن تواسي نفسك بضعفة الناس. هذه أحكامٌ إسلاميّة علّمها عليٌ عليه السلام المسلمين، ورأى أهل الكوفة بأعينهم كيف تمارس أحكام الإسلام بالدقة، كيف يُوزَّع مال الله على الناس. صحيحٌ أنّهم أثناء ممارسة علي عليه السلام لم يكونوا قد استوعبوا بعد أن هذا هو المنهج الأفضل لمصلحتهم، وكانت رؤوس المنافقين في الكوفة كثيرة، وزعماء القبائل يعملون بكل ما أوتوا من قوة بالضغط على علي عليه السلام لتغيير هذا المنهج، وكلّ الذين أضرّهم حكم علي عليه السلام، كانوا يستغلّون الجهل والفقر من أجل أن يثبطوا الناس عن علي عليه السلام، وكان عليٌ عليه السلام يقول: "يا أهل الكوفة أتروني لا أعلم ما يصلحكم؟! بلى ولكنّي أكره أن أصلحكم بفساد نفسي"(2)، وقال في موردٍ آخر: "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور في من وليت عليه؟ والله، ما أطور به ما سمر سمير، وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً"(3).

*شهدوا أكاذيب معاوية
الكوفة في هذه السنوات الخمس لم تستطع أن تستوعب دروس علي عليه السلام، حتى قُتل عليه السلام وتولّى من بعده الحسن عليه السلام، الذي أصيب عهده بالانتكاسة المعروفة، ثم حكم الناس من كان يصوّر المنافقون عهده بأنّه عهد البحبوبة، وعهد الازدهار، وعهد الراحة من الحرب. فقد كانوا يزينون للناس حُكم معاوية وكانوا يستثيرون روح العصبيّة وروح الجاهليّة من الأعماق.

لمّا جاء معاوية بانت الأكاذيب كلّها. رأى الناس الفارق الكبير. كانوا في أيام عليٍ عليه السلام يأمنون على أموالهم فلا تُنتهب، وعلى دورهم فلا تُهدم، لمّا جاء معاوية بدأ بيت المال يُفرِّق بين المسلمين في العطاء، هذا من أنصار الحزب الأُمويّ فليُعطَ، ذاك ليس من محبي الحزب الأمويّ فلتُهدم داره، فليشرّد أبناؤه.

*عدالة عليّ مع الخوارج
في زمن الخوارج، الذين كانوا يقولون لعليٍ عليه السلام إنك كافر، لم يقطع عن جنديٍ منهم راتبه، حتى أنّه كان عليه السلام يتحدّث في مسألةٍ فقهية، وهو سيّد الفقهاء، فقام أحدهم بشتمه عليه السلام فبادره أصحاب الإمام عليه السلام يريدون الانتقام منه فقال عليّ عليه السلام: "لماذا تقتلونه؟" أجاب: "إنّه يشتمك". قال عليه السلام: "إنّما هي شتيمةٌ بشتيمة".

صحيح أنّ عليّاً عليه السلام قاتل الخوارج ولكن بعد أن أعملوا السيف في رقاب الناس، قتلهم بعد أن قطعوا الطرقات، بعد أن التقوا مرّةً بأحد أبناء الصحابة ومعه جاريته، ومعه أموالٌ له، سرقوا ماله، وقتلوا الجارية، وبقروا بطنها، وقتلوا ولديه، ثم قتلوه، لأنّه لم يوافقهم أن ينعت علياً عليه السلام بالكافر. في المقابل في أثناء سيرهم إلى قتال علي عليه السلام، التقط أحدهم ثمرةً عن الأرض، فصاح به أحدهم: "كيف تأكلها بغير حقها؟" قال: "يا هذا إني وجدتها". قال: "لا، لا يجوز، أتأكل ثمرةً ملقاةً على الأرض لا تعرف صاحبها؟ أرجعها إلى مكانها". فيقوم الخارجيّ بإرجاع الثمرة إلى مكانها. ويلتقي آخرُ بخنزيرٍ بريٍّ، فيرميه بسهمٍ فيقتُله، فيقول له المسؤول: "لا يجوز، إنّما أنت تفسد في الأرض". قتلوا الصحابي وزوجته وابنه، لمجرد أنه لا يؤمن بكفر علي عليه السلام، أما في قتل الخنزير [استحرم]. بعد هذه الأعمال ونظائرها، قاتل عليٌّ عليه السلام الخوارج.

*محدوديّة الوعي الثوري
قارن الناس بين حُكم عليّ عليه السلام وحُكم معاوية فوجدوا الفارق الكبير، لذلك بدأ الشعور من جديد، بأن ما كان يقوله زعماء القبائل وأصحاب المناصب المفقودة هو زور وبهتان، لذلك بدأت الكوفة تتحيّن الفرص لتنقضَّ على ظالميها، ولتنهي وجود مستضعفيها، حتى إذا رفض الحسين عليه السلام إعلان البيعة استصرخته. لكن مع هذا لم تنجح الثورة بالمعنى الزمني للنجاح، والذي حصل أن حالة الوعي الثوري لم تكن في مستوى النضج الكامل. كانوا يملكون حالةً ثورية، ولكنها الحالة التي أسميتها بحالة "الوعي الثوريّ" المرتهن للأمر الواقع ككل.

*الحسين عليه السلام روح ثوريّة نبويّة
ليس الحسين عليه السلام وحده من كان يؤمن في عصره بأن يزيد فاسقٌ وشاربٌ للخمر، ولكنّه وحده كان يملك الروح الثوريّة النبويّة، الروح التي لا تأسرها القيود ولا تؤمن بالوهن، وإنّما تعتبر أنّ إرادتها مرتبطةٌ بإرادة الله، فلا يمكن أن يقوى عليها شيء. الحسين عليه السلام كان يملك روحاً ثوريةً نبوية. كان بالنسبة إلى أصحاب عصره مجرّد مهووسٍ ومجنون، فمن لم يكن يعتبر الحسين عليه السلام مجنوناً؟!

محمد ابن الحنفية قال له: "أنصحك يا أخي أن تذهب إلى اليمن، واختبئ في جبال اليمن، ليس من الضروريّ أن تذهب إلى الكوفة". عبد الله بن الزبير كان يقول: "تعالَ فاحتمِ بالكعبة". عبد الله بن عمر وكلُّ كبار الفكر في عصره كانوا يعتبرونه مجنوناً، والرجل الذي التقاه في الطريق، فقال له: "انصرني، تعالَ معي"، فأجابه: "إنّ هذا فرسي، خذها، والله ما تَبِعتْ أحداً إلاّ أدركته، وما فررتُ من أحدٍ عليها واستطاع اللحاق بي، فخذها إليك"، قال عليه السلام: "لا حاجة لي بفرسك". إذاً، كان يُقال للإمام الحسين عليه السلام: "اهرب".

كان يملك روحاً ثوريةً نبويةً، لم يستطع أصحاب الروح المرتهنة للواقع أن يدركوها، لذلك حصل هذا الفاصل بين الروحين الثوريتين، فوقعت المشاكل.

ختاماً، أرجو أن يوفقنا الله جميعاً لأن نصوّر حالة الوعي الثوريّ التي في أنفسنا، من حالة الارتهان للأمر الواقع، إلى مستوى الروح النبوية التي لا ترى أمام أعيُنِها أمراً يستطيع أن يقف في طريقها، وأن يعجّل فرج قائدنا وإمامنا الإمام المنتظر، وأن يمنَّ على المسلمين جميعاً بالنصر والعزة والكرامة.


(*) من خطبة عاشورائية للشهيد الشيخ راغب حرب رحمه الله في عام 1980م.
1- نهج البلاغة، خطبة (27).
2- الأمالي، المفيد، ص207.
3- نهج البلاغة، من كلام له (126).


 

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع