مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أسرار الحج المعنوية



الشيخ إسماعيل حريري‏


لمَّا كانت الشريعة الإسلامية السمحاء تُعنى أولاً وآخراً بسعادة الإنسان من خلال التشريعات الإلهية الواردة فيها، فهي تسعى من خلال تلك التشريعات إلى بلوغ الإنسان الكمال الإنساني في الدنيا لأن فيه السعادة، وبه يتحقق القرب المعنوي، والزلفى من المولى المتعال جلّ شأنه وتقدست أسماؤه، فيفوز بسعادة الدارين وبهجة الحياتين.

وعليه، إنَّ كلاً من العبادات الإسلامية قد تضمّنت أسراراً خاصة بها، انفردت بها عمّا سواها من العبادات الأخرى، كالوضوء والصلاة والصوم والحج، فلكلّ أسراره وخصائصه. ولمَّا كانت أفعال الحج كثيرة فقد كثرت أسراره، فخرجت الروايات عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله لتخبر عن هذه الأسرار، ولتنبّه على ضرورة الالتفات إليها، واستحضارها عند امتثال تلك الأفعال الظاهرية مع ما لهذه الأفعال من أشكال التعبّد الذي أمرنا به أمراً لازماً لا تجوز مخالفته، ففي الخبر عن الصادق عليه السلام في جواب ابن أبي العوجاء قال عليه السلام: "... وهذا بيتٌ استعبد اللَّه تعالى به خلقه ليختبر به طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محل أنبيائه وقبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه...". وعليه إنَّ أوَّل ما على مُريد الحج أن يصرف قلبه إلى خالقه بعيداً عن كل شغل وشاغل، غافلاً عما عدا الرب العزيز تبارك وتعالى، مستسلماً إليه، راضياً بقضائه وقدره، حتى يكون في عمله المقبل عليه من مناسك محرزاً رضى الرب تعالى، ومحققاً امتثال أمره، ففي مصباح الشريعة عن الصادق عليه السلام قال: "إذا أردت الحج فجرّد قلبك للَّه تعالى من كل شاغل وحجاب، وفوّض أمورك إلى خالقها، وتوكّل عليه في جميع حركاتك وسكناتك، وسلِّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق...، فإنّ من ادّعى رضى اللَّه واعتمد على ما سواه، صيّره وبالاً وعدوّاً، ليعلم أنه ليس له قوّة ولا حيلة، ولا لأحد إلاّ بعصمة اللَّه وتوفيقه...".

* إشارة إلى بعض أسرار الحج المعنوية:
إذا نقّى الناسك قلبه للَّه، وأخلص نيّته له من كل شائبة دنيوية اتّجه إلى أداء تلك المناسك بروح عالية ونفس مطمئنة، لا يشغله عن إدراك أسرارها شاغل، ولا يمنعه عن نوالها مانع، إذ لكل منسك من تلك المناسك كما تقدَّم ظاهر وباطن. أما الظاهر فهو التعبّد بما أمر اللَّه تعالى به بشكله الظاهري في القول والفعل وأما الباطن فهو فهم حقيقة هذا المنسك وإدراك عمق علاقته بروح الإنسان وقلبه. لذلك سنذكر بعض الإشارات إلى هذا الباطن استناداً إلى أخبار المعصومين عليهم السلام.

1 - إنّ أول فعل يقدم عليه الناسك هو الإحرام الواجب لعمرة التمتّع، ولهذا الواجب واجبات ومستحبات، فمن واجباته التجرّد عن لبس المخيط، ولبس ثوبي الإحرام، والتلبية، ومن مستحباته المؤكّدة الاغتسال قبله لأجله. فظاهر هذه الأعمال ليس بالأمر العسير إذ ما أسرع أن يتجرّد الإنسان من ثيابه، ويلبس تلك القطعتين الساترتين لمعظم جسده بعد أن يغتسل للإحرام بوقت قصير نسبياً. إلا أنّ باطنها ليس بالأمر اليسير حيث يستدعي التفاتاً وتوجّهاً إلى أسرارها وخصائصها عند امتثالها يقول الإمام الصادق عليه السلام في خبر مصباح الشريعة: "ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفا والخضوع والخشوع، واحرم من كل شي‏ء يمنعك عن ذكر اللَّه ويحجبك عن طاعته، ولبِّ بمعنى إجابة صادقة زاكية للَّه سبحانه في دعوتك، متمسكاً بالعروة الوثقى".

فالغسل للإحرام لا يعني مجرّد صب الماء على الجسد، وتنظيفه من القاذورات المادية، والأوساخ الظاهرية، بل يرقى إلى حدّ التوبة الخالصة من ذنوب اعترت هذا الإنسان وأثقلت كاهله، فيدخل في أول مناسكه تائباً منها، نادماً على ما فرّط فيها. وفي رواية الشبلي عن مولانا زين العابدين عليه السلام يسأله: "... فحين نزلت الميقات نويت أنك خلعت ثوب المعصية ولبست ثوب الطاعة... فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك نويت أنك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات، فحين اغتسلت نويت أنك اغتسلت من الخطايا والذنوب..." وفي كل ذلك يجيب الشبلي ب "لا"، فقال له الإمام عليه السلام: "فما نزلت الميقات، ولا تجرّدت من مخيط الثياب ولا اغتسلت...". وأما سرّ التلبية فهو أن يجيب "إجابة صادقة صافية زاكية للَّه سبحانه في دعوته، متمسكاً بالعروة الوثقى" كما تقدَّم عن مولانا الصادق عليه السلام. وأن ينوي عند نطقه بالتلبية أنه "نطق للَّه بكل طاعة وصمت عن كل معصية" كما في رواية الشبلي المتقدمة، لأنّ في إجابة نداء اللَّه تعالى بالتلبية إجابة له تعالى في كل ما أمر ونهى، فيكون بذلك ناطقاً بكل طاعة، وصامتاً عن كل معصية. هذا، مع ما في التلبية في الإحرام من كرامة اللَّه تعالى للمحرمين بنجاتهم من النار، ففي خبر سليمان بن جعفر قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن التلبية وعلّتها، فقال: "إن الناس إذا أحرموا ناداهم اللَّه تعالى ذكره فقال: يا عبادي وإمائي لأحرّمنكم على النار كما أحرمتم لي، فقولهم "لبيك اللهم لبيك" إجابة للَّه عز وجل على ندائه لهم".

2 - الطواف حول الكعبة الشريفة سبعة أشواط هو من أهم الأفعال في عبادة الحج حيث يكون العبد أقرب إلى بيت ربه الذي جعله مثابة للناس وأمناً، فاللازم على الطائف حوله أن يكون طوافه بقلبه لا بجسده فقط، فإن من خصوصيات هذا البيت العتيق أنه بإزاء البيت المعمور المسمّى بالضراح الذي أقامه اللَّه تعالى لطواف ملائكته، والأخير بإزاء العرش، فيكون الطواف حول الكعبة طوافاً مع الملائكة حول عرش الرحمان، يقول الإمام الصادق عليه السلام في رواية مصباح الشريعة: "... وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت...". ولشدة اهتمام المولى الكريم بهذا المنسك، فقد خصّه بالحصة الكبرى من رحمته تعالى، ففي خبر معاوية بن عمار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "للَّه تبارك وتعالى حول الكعبة عشرون ومائة رحمة، منها ستون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين". فليجهد العبد في هذا المقام العظيم لينال الحظوة والرضا عند المولى الكريم، وليكن على رجاءٍ من رحمة اللَّه تعالى الواسعة ليصله بعضٌ من شآبيبها، ونثرٌ من قطراتها.

3 - وفي سعيه بين الصفا والمروة متعبّداً، ليكن هارباً من خطاياه وذنوبه إلى اللَّه تعالى، مخالفاً لهواه فيما يقوده إليه في غير طريق الطاعة. وليهرول بين المنارتين هرولة العبد المسرع إلى ربّه بعين باكية، وقلب قد نقّاه من دنس الدنيا، وأفرغه من مائها الآسن، وكنسه من أوساخ الاشتغال بغير مالكه وهو الخالق البارى‏ء جل وعلا "وهرول هروباً من هواك، وتبرأ من حولك وقوّتك...". ويسأل الإمام السجاد عليه السلام الشبلي فيقول: "... فحين سعيت نويت أنك هربت إلى اللَّه، وعرف منك ذلك علاّم الغيوب؟ فأجابه: "لا". فقال عليه السلام: "فما طفت بالبيت ... ولا سعيت".

4 - وسر الوقوف بعرفة هو المعرفة والاعتراف، بعد كون هذا الوقوف من أجلّ العبادات إلى الباري تعالى، فإنه موضع إجابة الدعاء، وقبول الأعمال، وغفران الذنوب، وإن للَّه على أهل عرفة رحمة ينزلها عليهم، فإذا انصرفوا أشهد اللَّه ملائكته بعتق أهل عرفات من النار، وأوجب لهم الجنة. أما أنه معرفة فهو أن يعرف وهو واقف بعرفات "قبض اللَّه على صحيفته، واطّلاعه على سريرته وقلبه" ليكون مخلصاً في نيّته وقصده، متقناً لأفعاله، مشمّراً ساعد الجد في عبادة ربه تعالى. وأما الاعتراف فأن يعترف بخطاياه وذنوبه، مستغفراً منها، تائباً آيباً، ليكون محل رحمة اللَّه تعالى التي أعدّها لأهل عرفات. في خبر معاوية بن عمار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، سأله عن عرفات، لم سمّيت عرفات؟ فقال: "إن جبرائيل عليه السلام خرج بإبراهيم صلوات اللَّه عليه يوم عرفة فلما زالت الشمس قال له جبرائيل: يا إبراهيم، اعترف بذنبك، واعرف مناسكك، فسمّيت عرفات لقول جبرائيل عليه السلام: اعترف، اعترف". وفي رواية أخرى عنه عليه السلام: "أن آدم عليه السلام اعترف على عرفة بذنبه فجعل اللَّه تعالى ذلك سنّة في ولده".

5 - ولأعمال منى أهميتها التي لا تخفى على اللبيب فإنها مناسك ثلاثة أمرنا بأدائها متتالية: أولها: رمي جمرة العقبة وهي الكبرى بسبع حصيات. ثانيها: ذبح أو نحر الهدي في نفس منى. وثالثها: حلق شعر الرأس أو تقصيره على اختلاف التكاليف. فرمي الجمرة أو الجمار الثلاث ليس مجرّد رمي لعمودٍ من أحجار متراكبة فوق بعضها البعض، بل هو رمي له سرّه المرتبط بنفس الإنسان وروحيته يقول الإمام زين العابدين عليه السلام للشبلي: "فعندما رميت الحجار نويت أنك رميت عدوّك إبليس، وغضبته بتمام حجّك النفيس". وفي رواية مصباح الشريعة يقول عليه السلام: "وارم الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمار". فبهذا يكون قد أحسن الرمي، وأجاد الرمية فأصاب الغرض. وأما الذبح فليكن بذبح الهدي ذابحاً للهوى والطمع ليخرج من حجّه عبداً للَّه لا لطمعه وهواه، "واذبح حنجرة الهوى والطمع عنك عند الذبيحة". وفي رواية الشبلي المتقدمة "فعندما ذبحت هديك، نويت أنك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسكت به من حقيقة الورع، وأنك اتبّعت سنّة إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وثمرة فؤاده وريحان قلبه...". فهذا ما ينبغي بل يلزم أن يكون عليه الذابح. وإذا حلق فلينو بحلقه شعره "حلق العيوب الظاهرة والباطنة" ليتنظّف منها ويبرأ، فيكون سليماً معافىً من كل عيب ظاهر أو باطن، ولينو به أنه قد "تطهّر من الأدناس، ومن تبعة بني آدم، وخرج بذلك من الذنوب كما ولدته أمه" ليستأنف حياة جديدة ملؤها الطاعات بعيداً عن المعاصي والآثام.

ولعلّ تفاوت أصناف الحجيج يعود إلى تفاوتهم في إدراك تلك الأسرار والتفاتهم إليها وقصدها، ففي الصحيح عن معاوية بن عمار قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: "الحجاج يصدرون على ثلاثة أصناف: صنف يعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظ في أهله وماله، فذلك أدنى ما يرجع به الحاج". هذه بعضٌ من أسرار الحج التي أخبر عنها المعصومون عليهم السلام، وقد جُمعت في روايتين أوردهما المحدث النوري في مستدركه على الوسائل، إحداهما رواية الشبلي عن الإمام زين العابدين عليه السلام نقلها عن شرح النخبة، وثانيهما رواية عن الصادق عليه السلام عن مصباح الشريعة، فمن أراد الاستزادة فليرجع إليهما.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع