اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

مناسبة: معاهدة الحديبية... الأسباب والنتائج‏


الشيخ علي دعموش‏


عززت الأحداث والمعارك التي وقعت بين رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأعداء الإسلام من المشركين واليهود قوة المسلمين، وغرست هيبتهم في نفوس الناس، فقرر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن يسير بأصحابه إلى مكة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة بهدف أداء العمرة وذلك بعد أن رأى في المنام أنه يدخل المسجد الحرام في مكة هو وأصحابه آمنين من غير حرب ولا قتال كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا.

توجّه الرسول صلى الله عليه وآله ومعه ما يقرب من ألف وأربعمئة من المهاجرين والأنصار نحو مكة، وهم يحملون السلاح وساقوا معهم الهدي لتنحر في مكة. تناهى الخبر إلى قريش ففزعت وخافت وظنت أن محمداً صلى الله عليه وآله يريد الهجوم عليها فراحت تتدارس الموقف وتجهز نفسها لصد المسلمين فأرسلت خالد بن الوليد على رأس سرية عسكرية كمقدمة لجيشها لمواجهة المسلمين خارج مكة. فبلغ النبي صلى الله عليه وآله خبر قريش واستعدادها لقتاله، ولكي يتجنب المواجهة مع سرية خالد بن الوليد حيث لم يكن هدفه الحرب غيّر مسيره وسلك بالمسلمين طريقاً آخر غير الطريق الذين سلكته سرية ابن الوليد حتى استقر في واد يعرف بوادي الحديبية. وهو واد قريب من مكة وليس فيه ماء.

ويقول المؤرخون: إن المسلمين شكوا جفاف الوادي وانعدام الماء فيه فأجرى اللَّه سبحانه معجزة خالدة على يدي النبي صلى الله عليه وآله تجلت عندما توضأ صلى الله عليه وآله وألقى ماء المضمضة في البئر التي كانت قد جف ماؤها، فانفجر الماء فيها وشرب الناس وارتووا. بعدما استقر المسلمون في الحديبية بدأت رحلة التفاوض بين النبي صلى الله عليه وآله وقريش فبعثت قريش عدة مندوبين على التوالي للتفاوض مع الرسول واستيضاح أهدافه التي جاء من أجلها، فأبلغهم النبي صلى الله عليه وآله بجواب واحد: إنا لم نجى‏ء لقتال وإنما جئنا معتمرين.. ولكن قريشاً لم تقتنع بذلك واتهمت بعض مبعوثيها بالجبن والكذب والتواطؤ مع النبي صلى الله عليه وآله فقرر النبي أن يبعث من جهته سفيراً إلى قريش ليوضح لهم الهدف الذي جاء المسلمون من أجله، فاختار خراش بن أمية من قبيلة خزاعة لأداء المهمة، فتوجه هذا الرجل إلى مكة وخلافاً لكل الأعراف الدبلوماسية القاضية بحصانة السفراء ما إن دخل خراش مكة حتى عقروا جمله الذي كان يركب عليه وأرادوا قتله لولا أن تدخل الأحابيش ومنعوهم من ذلك، فرجع إلى معسكر النبي صلى الله عليه وآله وأخبره بما جرى معه. لم ييأس رسول اللَّه صلى الله عليه وآله برغم التصلب الذي أبدته قيادة المشركين ضد محاولاته السلمية، وكأنه صلى الله عليه وآله كان يرى بنظره الثاقب النتائج الطيبة التي ستجنيها الدعوة الإسلامية إذا ما سادت العلاقات السلمية بينه وبين قريش فترة من الوقت، فأرسل عثمان بن عفان إلى مكة فاعتقلته قريش ثلاثة أيام حتى ظن المسلمون أنه قتل.

عندها لم يجد الرسول صلى الله عليه وآله بداً من التهيؤ للجهاد والقتال.. بعد أن فشلت كل محاولاته الودية لدخول مكة، وبعد الموقف السلبي الذي وقفته قريش من سفرائه إليها. فدعا الناس إلى البيعة على الصمود بوجه قريش، فأخذ المسلمون يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً واحداً وأن يدافعوا عن الإسلام حتى النفس الأخير وقد كان النبي صلى الله عليه وآله جالساً تحت شجرة سميت شجرة الرضوان وقد سميت هذه البيعة ببيعة الرضوان التي جاء ذكرها في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح: 18).

تخوفت قريش من استعداد المسلمين للقتال ومبايعتهم الرسول على الثبات والصمود بعدما بلغتهم أنباء بيعة الرضوان، فقررت استئناف المفاوضات مع المسلمين، وأرسلت سهيل بن عمرو سفيراً إلى النبي صلى الله عليه وآله وكلفته أن يسعى لمصالحة محمد صلى الله شرط أن يرجع عنهم هذا العام فلا يدخل مكة وإنما يدخلها في العام المقبل، فالتقى سهيل بالرسول صلى الله عليه وآله وجرت مفاوضات طويلة انتهت أخيراً بالاتفاق على إبرام معاهدة هدنة بين الطرفين، فدعا النبي صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام فكتب الوثيقة التي عرفت بهدنة الحديبية أو صلح الحديبية.

* بنود الهدنة
وكان من أبرز ما اتفق عليه في هذه الهدنة البنود التالية:

أولاً: اتفق الطرفان أي المسلمون وقريش على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض.

ثانياً: من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه.

ثالثاً: من أحب أن يدخل في تحالف مع محمد صلى الله عليه وآله من سائر القبائل كان له ذلك، ومن أحب أن يدخل في حلف مع قريش كان له ذلك أيضاً من غير حرج عليه من أحد الطرفين.

رابعاً: يعود النبي صلى الله عليه وآله بمن معه من المسلمين هذا العام من غير أن يدخل مكة على أن يأتي في العام المقبل فيدخل مكة ويقيم فيها ثلاثة أيام ولا يدخل عليها بسلاح إلا سلاح المسافر على أن تكون السيوف في أغمادها.

خامساً: يكون الإسلام ظاهراً في مكة وللمسلمين أن يمارسوا شعائرهم الدينية فيها ولا يكره أحد على دينه ولا يؤذى ولا يعير.

سادساً: أن لا تستعين قريش على محمد وأصحابه بنفس ولا سلاح.

هذه أهم بنود وثيقة صلح الحديبية وبموجب الاتفاقية جمدت حالة الصراع بين المسلمين وقريش وعاشت المنطقة فترة من الهدوء والاستقرار انعكس إيجاباً لمصلحة الإسلام والمسلمين كما سنرى في سياق هذه المقالة.

نتائج صلح الحديبية

يعبَّر عن المعاهدة التي أبرمت في الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وآله والمشركين بـ"الهدنة" حسب المصطلح الفقهي الإسلامي، لأن الهدنة هي المعاهدة على ترك الحرب وتجميد حالة الصراع مع العدو لمدة معينة، وهذا ما حصل في الحديبية حيث وقّع النبي صلى الله عليه وآله صلحاً مؤقتاً مع المشركين مدته عشر سنوات. والهدنة بهذا المعنى جائزة في الإسلام إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك، والمصلحة هنا إنما يشخصها ولي أمر المسلمين. لا أفراد المسلمين أو جماعاتهم أو أحزابهم أو من يفرض زعامته عليهم. فولي الأمر الذي بيده أمر الحرب والسلم هو الذي يشخص مصلحة المسلمين تبعاً للظروف والأوضاع الاجتماعية والسياسية والأمنية وغيرها، فهو وحده الذي يحدد بحسب طبيعة المرحلة في كل عصر وزمان ما إذا كانت مصلحة المسلمين كامنة في الجهاد أو في الهدنة. ويبدو من نظرة معمقة لأوضاع الإسلام والمسلمين قبل معاهدة الحديبية وبعدها وما تمخض عنها من نتائج، أن هذه المعاهدة جاءت في مصلحة الإسلام والمسلمين بالكامل، بل كانت فتحاً كبيراً ونصراً عظيماً. ولم يدرك أهميتها بعض المسلمين الذين احتجّوا على بعض بنودها واعتبروها مجحفة بحقهم ومكانتهم. بل لقد كانت هذه المعاهدة من الأحداث السياسية الهامة في تاريخ الإسلام التي مهدت لنتائج عقيدية وعسكرية وسياسية كبرى في مصلحة الإسلام والمسلمين وجعلت انتصار الإسلام أمراً محسوماً وحتمياً.

وهنا نذكر أهم نتائج صلح الحديبية كما يلي:
أولاً: إن الهجمات والمؤامرات المتوالية التي قامت بها قريش على امتداد السنوات الست بعد الهجرة ضد الإسلام ودولته الفتية لم تترك للنبي صلى الله عليه وآله فرصة لنشر الإسلام على نطاق واسع في شبه الجزيرة العربية وخارجها، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله يصرف معظم أوقاته في الدفاع عن الإسلام وصد حملات المشركين ومؤامراتهم ضده وضد المسلمين، ولكن بعد صلح الحديبية وتجميد حالة الصراع مع قريش عاشت المنطقة فترة من الهدوء والاستقرار أتاحت لرسول الله صلى الله عليه وآله أن يقوم بنشاط تبليغي واسع لحساب الإسلام في المناطق كافة، فقد نشط النبي صلى الله عليه وآله منذ أواخر السنة السادسة للهجرة وحتى فتح مكة في توجيه سفرائه ومبعوثيه إلى كبار أمراء العرب المشركين وزعمائهم يدعوهم إلى الإسلام في الفترة نفسها التي كان قد وجه فيها سفراءه ومبعوثيه إلى أباطرة العالم وملوكه يعرض عليهم الدعوة التي بُعثَ بها إلى الناس جميعاً.

ثانياً: أزال صلح الحديبية الموانع المادية والنفسية التي كانت قريش قد وضعتها بين الناس وبين الإسلام بعدما اعترفت بالإسلام كقوة في المنطقة، وسمح صلح الحديبية لمختلف القبائل المشركة المنتشرة في الجزيرة العربية بالاتصال بالمسلمين وبالتعرف عن قرب إلى مبادئ الإسلام ومفاهيمه وأحكامه بعد أن منح الصلح تلك القبائل الحرية المطلقة في أن تختار المعسكر الذي تراه مناسباً، كما فتح الصلح المجال أمام المسلمين لينطلقوا بحرية في الدعوة إلى الإسلام حتى داخل مكة، فدخل الكثير من الناس في الإسلام، بل لقد دخل في الإسلام خلال سنتين أكثر مما دخل فيه على امتداد كل السنوات السابقة للصلح، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وآله خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمئة مقاتل، بينما خرج في فتح مكة بعد سنتين على رأس عشرة آلاف مقاتل.

ثالثاً: فسح الاتفاق في الحديبية المجال أمام قبيلة خزاعة للانضمام إلى معسكر المسلمين والدخول في تحالف وثيق معهم. وكان انضمام خزاعة إلى معسكر الإسلام نصراً كبيراً للرسول وللإسلام والمسلمين وذلك لأن جزءاً كبيراً من الأحابيش الذين كانت قريش تعتمد عليهم وتستخدمهم في حروبها ضد المسلمين يعدون من بطون خزاعة، وبذلك ضم النبي صلى الله عليه وآله جزءاً كبيراً من هذه القوة إلى جانبه وأضعف بذلك مركز قريش الحربي، ومهد بهذا وذاك لفتح مكة والقضاء على قاعدة الوثنية في المنطقة.

رابعاً: أتاح صلح الحديبية الفرصة أمام النبي صلى الله عليه وآله ليخوض بهدوء صراعاً ضد القوى الأخرى المعادية للإسلام والمسلمين كاليهود الذين تم القضاء عليهم في حصون خيبر والمواقع المجاورة لها، والبيزنطيين وحلفائهم العرب الذين ازداد تآمرهم على الإسلام في الجهات الشمالية للجزيرة العربية بازدياد نشاط الإسلام هناك، فضلاً عن التجمعات القبلية البدوية المشركة المنتشرة في الصحراء والتي كانت تنتظر الفرصة المؤاتية لإنزال الضربات بالمسلمين.

هذه هي بعض وجوه المصلحة التي دفعت بالنبي صلى الله عليه وآله إلى أن يوقع معاهدة الحديبية مع المشركين ويجمد الصراع معهم حتى حين. ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وآله انطلق في تشخيصه لهذه المصلحة من طبيعة المرحلة التي كان يعيشها ومن طبيعة الأوضاع والظروف السياسية والأمنية التي عاشها الإسلام والمسلمون آنذاك. وعلى هذا الأساس فلا يصح تعميم أحكام هذه المرحلة التاريخية التي لها ظروفها وأوضاعها الخاصة على مرحلة حالية من الصراع، فمن الخطأ الاستدلال بهدنة الحديبية أو بصلح الإمام الحسن عليه السلام فيما بعد مع معاوية على جواز الصلح مع الكيان الصهيوني الغاصب لاختلاف طبيعة الأوضاع والظروف ومصلحة الإسلام والمسلمين اليوم عن طبيعة الأوضاع والظروف ومصلحة المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله أو في عهد الإمام الحسن عليه السلام. فقد فهمنا بعض وجوه المصلحة الكامنة في معاهدة الحديبية التي وقعها النبي صلى الله عليه وآله مع المشركين من قريش في السنة السادسة للهجرة.

ولكن ما هي المصلحة اليوم في أن يتخلى المسلمون عن أرضهم ومقدساتهم وحقوقهم ويتنازلوا عن كل ذلك للعدو الصهيوني الغاصب للأرض القاتل للإنسان وصاحب الأطماع الكبيرة في الأرض والمياه والموارد الطبيعية؟! إن الكيان الصهيوني هو كيان غاصب محتل للأرض والمقدسات وثمن الدخول معه في معاهدة أو تسوية أو صلح هو التخلي عن الأرض والمقدسات والحصول على أوهام أو على حفنة تراب هنا أو هناك، والخضوع لشروطه وأطماعه التوسعية في المنطقة، وهذا ما يتنافى مع مصلحة الإسلام ويأباه ويرفضه جميع المسلمين.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع