لقد كانت الحوزات العلمية الإسلامية وخاصة الشيعية أهم القواعد الإسلامية عبر التاريخ التي ربّت "حماة الإسلام" وسوف تبقى. وإذا كان الإمام الخميني قدس سره يقول: "لو لم يكن أولئك العلماء لما كان لدينا اليوم أي إطلاع على الإسلام" فإنَّه يتحدَّث بعمق عن واقع يدل عليه النظر إلى التاريخ وحالات العلماء العظام الذين قاموا بنقل تعاليم الإسلامية والدفاع عنها وتهذيبها من كل دخيل وقدموا لذلك كل ما لديهم في سبيل إعلاء كلمة الله على الأرض. مجلة بقية الله تفتح صفحاتها للحديث عنهم عرفاناً للجميل وتعريفاً له.
الشيخ مرتضى الأنصاري وحيد عصره ونابغة زمانه، قدوة الفقهاء، ومظهر الورع والتقوى والعبادة، شمس شعَّت على كل العلماء والفقهاء لينهلوا من فيضه وعلمه، ويدرسوا كتبه ومؤلفاته، يطوون بذلك مدارج الفضل والكمال. ولطالما استفادت الحوزات العلميَّة وما زالت من هذا الموجود المقدس... فما زال الشيخ الأنصاري حيَّاً.
* من هو؟
ولد الشيخ مرتضى محمد أمين الأنصاري يوم عيد الغدير 18 ذي الحجة من عام 1214هـ في ديزفول، ولعل لهذا الاتفاق بين ولادته وعيد الغدير أثراً معنوياً في حياته. غير أن الوقائع تشير إلى أن الأثر الأول في ذلك يعود إلى التربية التي تلقَّاها من والديه.
فقد ذكر أن أمه لم ترضعه يوماً بدون وضوء، وكان يعيش في محيط مليء بالعلم والفضيلة حتى أصبح العلم والتقوى في نفسه ملكات راسخة تبعده عن كل سوء ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا﴾.
يرجع نسب الشيخ الأنصاري إلى جابر بن عبد الله الأنصاري الذي كان من أصحاب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومن الأشخاص المعدودين الذين بقوا أوفياء لأهل البيت عليهم السلام حتى آخر حياتهم.
والدته ابنة الشيخ يعقوب الأنصاري، كانت امرأةً تقيَّةً عابدة لم تترك صلاة الليل حتى آخر حياتها. غير أنها مرضت في السنوات الأخيرة فكان الشيخ الأنصاري يأتيها بماء الوضوء، حتى إذا ما فقدت بصرها أصبح يحملها إلى مصلاَّها لتؤدي صلاة الليل.
* الهجرة العلميَّة
تلقَّى الشيخ الأنصاري مقدَّماته العلمية على يد عمّه الأكبر الشيخ حسين الأنصاري الذي كان عالماً فاضلاً في ديزفول. ثم تابع دراسة الفقه والأصول على يد علماء تلك المنطقة حتى استطاع بنبوغه وتفوقه أن يصل إلى أعلى المراتب فيها.
كان سفره الأول خارج ديزفول مع والده لزيارة مرقد سيد الشهداء عليه السلام في هذه الزيارة قصداً بيت السيد محمد مجاهد رضوان الله تعالى عليه لإلقاء التحية عليه، وفي هذا المجلس يخاطب السيد مجاهد الشيخ محمد أمين الأنصاري مستنكراً بقوله: "لقد سمعت أن أخي الشيخ حسين (الأنصاري) يقيم صلاة الجمعة في ديزفول. فتقدم الشيخ مرتضى الأنصاري، وكان عمره حينها، ثمان عشرة سنة، وسأله: "ألديكم شك في وجوب صلاة الجمعة؟" ثم شرع بإعطاء حوالي 12 دليلاً على وجوب إقامة صلاة الجمعة ممَّا أدى إلى تراجع السيد مجاهد عن رأيه واقتناعه مع الحاضرين بما قيل له بشكل قطعي. فما كان من الشيخ مرتضى إلاَّ أن قام مجدداً وقدم أدلة أخرى تناقض كلامه السابق بحيث حير الحاضرين وأذهلهم. فسأل السيد الشيخ محمد أمين: "لماذا أحضرت ابنك معك؟" قال: "من أجل الزيارة"، فقال السيد: "لديه استعدادات عظيمة وينبغي أن يبقى في كربلاء لإكمال تعليمه. وأنا أؤمّن له مصاريفه وأتعهده"، فقبل الشيخ الوالد وبدأت في كربلاء رحلة الشيخ مرتضى العلمية الثانية.
قضى الشيخ الأنصاري أربع سنوات كاملة في كربلاء استفاد فيها من محضر السيد مجاهد ومن شريف العلماء المازندراني استفادات عظيمة. ولكن بعد أن هجم العثمانيون على كربلاء واحتلّوها اضطر العلماء ومن بينهم الشيخ الأنصاري إلى ترك الديار المقدسة والهجرة إلى الكاظمين.
رجع الشيخ بعد سنة إلى كربلاء حيث استفاد من محضر شريف العلماء سنة أخرى ثم هاجر بعد ذلك إلى النجف الأشرف والتحق بدروس الفقيه المحقق الشيخ موسى كاشف الغطاء ليبقى هناك مدة قصيرة قبل أن يعود إلى ديزفول.
في سنة 1240 هـ قرر الشيخ الأنصاري التوجه إلى إيران لزيارة الإمام الرضا عليه السلام وللاستفادة من علمائها بعد أن أخذ ما كان يريده من علماء العراق. إلا أن والدته التي عانت الكثير من فراقه الطويل لم ترضَ بذلك، ولكن بعد إصرار الابن اتفقا أن يحيلا الأمر إلى الاستخارة. فجاءت هذه الآية الشريفة: ﴿لا تخافي ولا تحزني إنَّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين﴾.
فسكنت هذه الآية من روع الوالدة وتم سفر الشيخ إلى إيران.
وصل الشيخ إلى كاشان وهناك قابل الملأ أحدم النراقي رضوان الله تعالى عليه حيث درس على يديه لمدة أربع سنوات، وفي ذلك يقول الملأ النراقي: "إن الاستفادة التي حصلت عليها من هذا الشاب أكثر مما استفاده مني"، وفي قول آخر له: "لقد قابلت أكثر من 50 مجتهداً مسلماً باجتهاده، ولكني لم أشاهد مثل الشيخ مرتضى".
ومما يُروى أن الشيخ الأنصاري كان في كاشان نازلاً عند أحد طلاب الحوزة العلمية، فطلب منه مرة أن يحضر معه خبزاً في طريق عودته إلى الغرفة. وعندما رجع الطالب وجده الشيخ قد أحضر نوعاً من الخبز تعلوه طبقة من الحلوى، فسأله: "من أين لك المال حتى أحضرت هذه الحلوى؟" فقال له: "حصلت عليه بعنوان قرض". فلم يأكل الشيخ شيئاً منها وقال: "لست مطمئناً من أنني سأعيش لأسدد هذا الدين". وعندما وصل الشيخ إلى مقام المرجعية والزعامة للشيعة، التقى بذلك الطالب القديم الذي سأله: "قل لي، كيف وصلت إلى هذا المقام العظيم"؟
فأجاب الشيخ رضوان الله عليه:
"لأنني لم أجرؤ على أكل ذلك الخبز الذي علته الحلوى، بينما أنت تجرأت على ذلك".
بعد مكوثه مدة في كاشان رجع الشيخ إلى ديزفول للتصدي لخدمة الناس هناك في الأمور الشرعية. وقد حدث أن وقع نزاع بين شخصين ذات مرة، فجاءا إليه يشتكيان ويطلبان حل خلافهما، ولكن الشيخ أرجأ حل المشكلة إلى اليوم التالي. في ليلة ذلك اليوم أرسل أحد وجهاء ديزفول إلى الشيخ رسالة يطلب منه فيها أن يؤيد أحد الرجلين لأنه قريب منه. فانزعج الشيخ كثيراً وقرر من حينها الهجرة من تلك المدينة معلقاً على هذا الأمر بقوله: "إن المدينة التي يتدخل أصحاب النفوذ في أحكامها الشرعية لا صلاح في البقاء فيها".
هاجر الشيخ الأنصاري إلى النجف الأشرف التي كان يتقاسم الزعامة فيها شخصيتان مرموقتان هما: الشيخ علي كاشف الغطاء والشيخ محمد حسن صاحب الجواهر.
جاور الشيخ الأنصاري الشيخ كاشف الغطاء لعدة سنوات استفاد منه كثيراً خلالها، إلا أن الشيخ كاشف الغطاء كان يقول للشيخ جعفر الشوشتري "لا تتخيَّل أن الشيخ مرتضى يحضر درسنا للاستفادة، بل لأنه سمع أن الحلقات العلمية فيها تحقيقات فهو يحضر من أجل تحصيلها".
وبعد انقضاء كل تلك السنوات، لم يعد الشيخ يحضر أي درس بل بدأ هو بالتدريس والتأليف بنفسه.
(يتبع)