أشكرك يا ربِّ لأنك وهبتني ما أمسك به قلمي هذا لأكتب كلمات الشوق وأبثّ شجون الفراق وأحوّل دموعي المخزونة في الأعماق مداداً أكتب به هذه العبارات.
أذكر تلك الأيام البعيدة، القريبة في الذاكرة، حينما كنت طفلاً أتقلب بين يدي أمي وأبي وأخواتي، أضحك لهذه الدنيا وأنا أحلم بغدٍ مليء بالسعادة، كنت أعدو وأركض بنشاط وأستيقظ باكراً قبيل طلوع الشمس لألعب وأنتظر عطايا النهار، يحملني لهفٌ دائمٌ للفرح على أن أقوم بكل الأعمال، فإذا بي أسمع تارة تأنيباً، وطوراً توبيخاً وأخرى تشجيعاً، فأدرك الحسن وأعرف القبيح. وكنت أنت الوحيد الذي يحبب إلي الإيمان فاستمع وأصغي لكلمات الأطهار بحماس زائد فأعشقها وأعشقهم، وأنت الوحيد الذي جعلتني أسعد بروح التقوى حينما كان الجميع حولي يتبعون الهوى فأي سر وراء هذا؟... لا أدري!
ومرت الأيام، وأنا أكبر على روحك وحنانيك، أدفع الملامات بالضحكة والابتسامة أو أهزُّ كتفيَّ لا أملك منطقاً كالذي يتحدثون به، أرد على اقتراحاتهم التي يضعونها لإسعادي... هم لم يعرفوا كم كنت سعيداً ولذلك قد يشفقون عليَّ أنا الصغير لشدة تمسكي بروحك..
واستيقظت ذات يوم على حلم مزعج، وعلمت أن مشاكلي ازدادت تعقيداً، فاضطربت على أثر هجوم الأفكار وحملات الشهوة المتتالية التي كانت تريد أن تسلب مني روحك.. كدت أقع ضحية لها ذات يوم فوقْعُ خطاها يجثم على صدري، وما حولي يعضدها بصوره البرَّاقة وعروضه الخدَّاعة، استنجدت بك وتوسلت إليك.. فأقذتني ما هو أطيب منها فسكت روعتي وهدأت نفسي، وعندما شعرت بالأمن نسيتك: فتزلت قدمي... وشعرت حينها بألم السقوط وقد كان عظيماً، فنظرت حولي وعرفت أنك الشاهد عليَّ في خلوتي، فإلى أين المفر؟ وقد كنت أهرب إليك منهم. فالآن إلى من أفر وقد عصيتُك وهم قد أوقعوا بي فتركتك.
رحت أبحث من بين ركامي وحطامي عن بقايا مناجاتك لي في الأسرار: فأخبرتني بلسان سترك عليّ: أنَّ الراحلَ إليك قريبُ المسافة. فحَمَلتني أجنحةُ رحمتك وبرد عفوك إلى نهر التوبة، فجرت دموعي أنهاراً لتحول المشهد إلى بحرٍ ترسم كل قطرة فيه كلماتك: "فهل تفرّ مني"، وهطلت سحائب لطفك فأنقذتني وأنا العالق بحبل إحسانك، الغارق في بحر امتنانك.
لكنني وأنا أطير على تلك الأجنحة الرحمانية لم أنظر إلى الأعلى، بل أخذ بمجامع قلبي منظر السواقي الراكدة أسفل قدمي، وأذهلتني أعشاب الطبيعة التي كانت تداعي جيوبي فاستسلمت لدلالها حتى غفوت ورحت في سبات عميق..
وفجأة سمعت صوت صراخ عميق، لسجين يتهاوى من أعالي السماء إلى أسفل الأرض، ولم يكن أحد يسمع صراخه وأنينه.
(يتبع)