آية الله الشهيد مرتضى مطهري
تعريف الاقتصاد والمفاهيم الاقتصادية
قدّم الشهيد مطهري لبحثه حول النظام الاقتصادي في الإسلام بالحديث عن أهمية الاقتصاد ودوره في حياة المجتمعات مشيراً إلى نظرة الإسلام فيما يتعلق بالاقتصاد السليم. في هذه الحلقة يبدأ سلسلة أبحاث لإكمال الإطار العام الذي يكوّن النظام الاقتصادي في الإسلام.
● ما هو الاقتصاد؟
يحتاج الإنسان في استمراره وحياته إلى مجموعة من الأشياء من قبيل الغذاء واللباس والسكن التي تسمى بأمور المعاش. وله أيضاً احتياجات أخرى من قبيل الأمور العائلية، كالزوجة والأولاد، والحاجات الثقافية والمعنوية والدينية، وكذلك السياسية كالحكومة وما يرتبط بشؤونها الاجتماعية من قبيل القضاء. ومن بين هذه الاحتياجات، تقع الاحتياجات الاقتصادية في الأولويات، أي تلك التي تكفل بقاءه وحياته، وبدونها لا يمكنه الاستمرار في العيش.
لو فرضنا زماناً يعيش الإنسان فيه وحيداً، ولا يوجد أي نوع من المساعي المشتركة بين الناس، كل فردٍ يؤمن لنفسه ما تحتاجه في الحياة، فإن هذا الزمان لا موضوع فيه للاقتصاد. كما لو فرضنا اثنين من الحيوانات التي تعيش معاً، ولكننا لا نجد بينهما أي نوع من الروابط الاجتماعية أو الاقتصادية.
ولكن، منذ ذلك الزمان الذي بدأت فيه المساعي المشتركة وقسّمت الأعمال والوظائف بين الأفراد، ولو في أبسط أشكالها ـ كما لو كان ذلك في نطاق الأسرة الواحدة حيث يلعب الأب دور المدير والرئيس ـ فإنَّه وُجِد حتماً نوع من الروابط الاجتماعية والقوانين بين الأفراد التي بدورها أيضاً حتّمت تقسيم وسائل العيش بصورة ما، وهذا نوع بسيط من العلاقات الاقتصادية التي تأسست وظهرت سواء كانت وسائل المعاش مؤمنة بواسطة العمل "الإنتاج"، أو أنها كانت تُحصّل مباشرة من الطبيعة كما لو أصطيد السمك من الماء وقطف الثمر من الشجر، وسواء قسمت الحاجات بصورة متساوية أو متمايزة كأن يأخذ القوي والأنشط أكثر من غيره.
إذاً، العلاقات الاقتصادية نشأت عندما وُجدت الروابط الاجتماعية بين الناس، حيث بدأ العمل المشترك وتقسيم الوظائف، وبسبب محدودية وسائل العيش احتاج الأمر إلى نوع من التقسيم والتوزيع، فلو فرضنا أن الناس كانوا مجبرين على العيش معاً بصورة جماعية لتأمين حاجاتهم العائلية والسياسية والثقافية، ولو أن وسائل العيش كانت موفّرة إلى درجة شبيهة بالهواء ـ الذي هو من أكثر ضروريات الحياة وفي متناول الجميع ـ لما لزم وجود التقسيم والتوزيع، ولما وجدت تلك العلاقات الاقتصادية الخاصة، كالملكية الفردية أو الاشتراكية والأولوية وغير ذلك.
والروابط الاقتصادية مثل سائر الروابط الاجتماعية أمور جعلية (وضعية). فكما في العلاقات الاجتماعية تبرز مفاهيم من قبيل الرئاسة والزوجية ووجوب الطاعة، كذلك في العلاقات الاقتصادية تبرز مفاهيم من قبيل المالكية والمملوكية والحق والمبادلة وغيرها، فما أن تبرز المساعي المشتركة وتقسّم الوظائف حتى تتبعها سلسلة من الاعتبارات والمفاهيم الاعتبارية والقانونية. تلك المفاهيم الاعتبارية التي ترتبط بالإنتاج والتوزيع للثروة ووسائل العيش تسمى بالعلاقات الاقتصادية.
● الإنتاج
أغلب الحيوانات تؤمن معاشها من نفس الطبيعة بصورة جاهزة (خام) وهي لا تقدر على إنتاجها، فلا يلزم أن تقوم ببعض العمل في تلك المواد الطبيعية حتى تصبح جاهزة (لأنها لا تقدر على ذلك). ولكن الإنسان ملزم من جانب أن يؤمّن معظم وسائل معاشه بواسطة العمل، وهو من جانب آخر يملك هذا الاستعداد. بل يمكن القول أن هناك نوعاً من الارتباط بين هذا الاحتياج وهذه القدرة في صميم خلقته. بالطبع يوجد من بين الحيوانات من تؤمن وسائل عيشها بواسطة العمل وهي تسمى بالحيوانات المنتجة، كالنحل وبعض أنواع النمل الذي يزرع ويحصد (راجع كتاب أسرار الخلقة، لموريس كريسون). ولأن الإنتاج في العادة ليس أمراً فردياً وإنما فيه نوع من الاشتراك والتعاون، لذلك يلزم هنا نوع من الروابط والقرارات الخاصة. فالعلاقات الاقتصادية والقانونية لا تنحصر فقط في باب التقسيم والتوزيع والاستهلاك، بل إن هناك سلسلة من الروابط أيضاً سوف تنشأ بين الأفراد في الإنتاج، كعلاقة الأجور والبيع والمزارعة.
وهكذا تنشأ العلاقات الاقتصادية من جانب بواسطة الإنتاج، ومن جانب آخر بواسطة التقسيم وتوزيع الثروة. فالثروة في الغالب ينبغي أن تُنتج ثم تُقسّم وتُوزع ومع حاجة الكل إليها يتحتّم نشوء العلاقات الاقتصادية.
ثم هناك أمرٌ آخر أو هو أن العلاقات الإنتاجية ترتبط بقيمة العمل، هذا مع التقرير بأن هذه القيمة لا تختص فقط بالأعمال الإنتاجية وهي ليست تابعة دائماً للقيمة الاقتصادية أو أنها منحصرة بالحاجات الاقتصادية، فالأعمال الثقافية والسياسية والاجتماعية لها قيمٌ أيضاً وإن استلزمت أحياناً نشوء روابط اقتصادية خاصة. وهكذا فإن ملاك قيمة العمل هو جميع الاحتياجات الفطرية والطبيعية والتي من ضمنها الاقتصاد. ونحن في المستقبل وفي فصل "القيمة" سوف نبحث في هذا المجال بالتفصيل إن شاء الله.
قال بعض العارفين: من كان نظره وقت النعم إلى المنعم لا إلى النعمة، كان نظره وقت البلاء إلى المبلي لا إلى البلاء، فيكون في جميع حالاته غارقاً في ملاحظة الحق ومتوجهاً إلى الحبيب المطلق، وهذه أعلى مراتب السعادة. ومن كان عكس ذلك كان في أسفل درك الشقاوة، فيكون وقت النعمة خائفاً من زوالها، ووقت النقمة معذباً بنكالها.