شخصية العدد: عبد الله بن هاشم: وارث اللّواء
الشيخ تامر محمد حمزة
دائماً يُضيء الزمان بأناسٍ يستحقّون أن يُطلق عليهم الرجال الرجال، بسبب بعض المواقف التي يقفونها والقرارات التي يتّخذونها. وحقيق علينا قول الحقّ إنّهم من خلال تلك القرارات وتلك المواقف يصبحون نموذجاً وأمثولة يحتذى بها ويتحدّث عنها من عاصرهم ومَن تأخّر عنهم. من أولئك الرجال "عبد الله بن عتبة المرقال". وهذا الشبل من ذاك الأسد، أعني به هاشم بن عتبة(*) الذي وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بالمرقال، والذي فتح الله على يديه الفتوحات العظيمة، ثم قضى شهيداً في معركة صفّين بين يدي سيّده أمير المؤمنين علي عليه السلام.
*أهل البأس من الرجال
وأما ولده عبد الله فالحديث عنه لا يختلِف ولا يتخلّف عن الحديث عن أبيه، لأنّه رجل في ضمن عِداد الرجال من أولي البأس في ساحة الميدان.
الحديث هنا عن رجل طُلب إحضاره في مجلس الخَصم، مجرّداً من كامل قوّته، فريداً، مكبّلاً ليس له ناصر ينصره ولا ظهير يعاضده، مصفّد الرجلين، دامي القدمين، وكلّ ذلك توصّلاً إلى كسر إرادته وإلى الانتقام ممّا جرى عليهم منه في الأيام الغابرة في ساحة الوغى. وهذا دَيدن الجبناء وطبْع أهل الغدر واللّئام. ولكنّ المفاجأة الكبرى أنّ عبد الله قد رسم، لا بل نقش، في التاريخ مواقف تحكي ما تنطوي عليه النفوس الأبيّة والأنوف الحميّة.
*لواء الوالد في يد الابن
المعروف تاريخيّاً، أنّ حامل لواء أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين هو هاشم بن عتبة، المرقال. فلمّا ارتفع شهيداً رفع لواء المعركة ولده عبد الله بن هاشم رافضاً أن تسقط راية عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى الأرض. فأخذ الراية من أبيه وأكمل المعركة، مقتحماً جموع الآخرين، مستخِفّاً بكثرَةِ عدَدهم، مفتخراً أنّه على الحقّ، وقد زاد من عزمه وإرادته لإكمال الطريق وبلوغ الغاية، وأنشد قائلاً:
أهاشم بن عتبة بن مالك | أَعزِز بشيخ من قريشٍ هالك |
تخبّطه الخيلات بالسنابك | في أسود من نقعهن حالك |
أبشر بحور العين في الأرائك | والرَّوح والرَّيحان عند ذلك |
*القتال مع عليّ أفضل من دخول الجنّة
المجاهدون يقاتلون لبلوغ غاياتهم وهي متعدّدة. لكن، منهم مَن يعتبر أنّ منتهى النعيم ليس دخول الجنّة، بل هو القتال بين يدي عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
فقد ذكر صاحب الأعيان أنّ عبد الله بن هاشم قد قال وهو يؤبّن والده في ساحة المعركة: "... أيُّها الناس إنّ هاشماً عبدٌ من عباد الله الذين قدّر أرزاقهم وأحصى أعمالهم وقضى آجالهم، فدعاه الله ربّه الذي لا يُعصى، فأجابه وسلَّم لأمر الله وجاهد في طاعة الله ابن عمّ رسول الله، وأوّل من آمن به وأفقههم في دين الله... فجودوا بمهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى والملك الذي لا يَبلى... فلو لم يكن ثواب، ولا عقاب، ولا جنّة، ولا نار لكان القتال مع عليّ أفضل من القتال مع معاوية ابن آكلة الأكباد، فكيف وأنتم ترجون ما ترجون؟"(1).
* تحت الرصد والملاحقة
لمّا تمَّ الأمر لمعاوية، بعد شهادة الإمام عليّ عليه السلام، بعث زياداً إلى البصرة، ونادى منادي معاوية: "أمن الأسود والأحمر بأمان الله إلّا عبد الله بن هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص". فمكث معاوية يطلبه أشدّ الطلب ولا يعرف له خبراً، حتّى قدِمَ عليه رجل من أهل البصرة فقال له: "أنا أدلّك على عبد الله بن هاشم بن عتبة. اكتب إلى زياد فإنّه عند فلانة المخزومية. فدعا كاتبه فكتب "من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان أمّا بعد... فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها فاحلق رأسه وألبسه جبّة شعر وقيّده وغلّ يده إلى عنقه واحمله على قتب بعير بغير وطاء ولا غطاء وأنفذ به إليّ"(2).
* مكبّلاً في مجلس معاوية
أنفذ زياد عبد الله إلى معاوية، فوصل إليه يوم الجمعة وقد لاقى نصباً كثيراً، ومن الهجرة ما غيّر جسمه. وكان معاوية يأمر بطعام فيتّخذ في كلّ جمعة لأشراف قريش ولأشراف الشام ووفود من العراق، فلم يشعر معاوية إلّا وعبد الله بين يديه، وقد ذبل وسهم وجهه، فعرفه معاوية. وكان في المجلس عمرو بن العاص لم يعرفه فقال معاوية: يا أبا عبد الله أتعرف هذا الفتى؟ قال: لا، قال هذا ابن الذي كان يقول في صفّين:
أعور يبغي أهله محلا |
قد عالج الحياة حتى ملا |
لا بُدَّ أن يَفلّ أو يُفلا(3) |
وبعد أن تعرّف عمرو بن العاص إلى عبد الله بن هاشم في مجلس معاوية بادر مباشرة إلى معاوية أن يعمد إلى فعل ما عجز عنه في صفّين، فبادر معاويةَ قائلاً: وإنّه لهو، دونك يا أمير المؤمنين، الضبّ المضبّ فاشخب أوداجه على أثباجه ولا ترجعه إلى أهل العراق فإنّهم أهل فتنة ونفاق، وله مع ذلك هوى يرديه وبطانة تغويه. والذي نفسي بيده لئن أفلت من حبالك ليجهزنّ إليك جيشاً تكثر صواهله لشرّ يوم لك(4).
فالتفت عبد الله إلى عمرو بن العاص، وهو على الحالة التي كان عليها من التعب والنصب والتقييد والتكبيل، قائلاً له: يا ابن الأبتر! هلّا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفّين ونحن ندعوك إلى البراز، وأنت تلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء والنعجة القوداء؟ أما إنّه إن قتلني، قَتل رجلاً كريم المخبرة حميد المقدرة، ليس بالحبس المنكوس ولا الثلب (المعيب المهان) المركوس (الضعيف)(5). فردّ عليه عمرو مهدّداً. ثم قال له عبد الله: "... أكثر ائتمارك فإنّي أعلمك بطراً في الرخاء، جباناً في اللقاء، عيابة عند كفاح الأعداء، ترى أن تقي مهجتك بأن تبدي سوأتك. أنسيت صفّين وأنت تُدعى إلى النزال فتحيد عن القتال؟"(6).
* في ذروة التحدّي
من لا يحترم معاوية في مجلسه وبين حاشيته وزبانيته؟ ومن يجرؤ أن يخالف الآداب والبروتوكولات أمامه؟ نعم، هناك رجال يستصغرون قدره ويستعظمون توبيخه، منهم عبد الله بن هاشم، فحينما التفت إليه معاوية قائلاً: "ألا تسكت لا أمّ لك؟" أجابه عبد الله قائلاً له: "يا ابن هند أتقول لي هذا؟ والله لئن شئت لأعرقنّ جبينك ولأقيمنّك وبين عينيك وسم يلين له أخدعاك، أبأكثر من الموت تخوفني؟!"(7).
وبعد حوار طويل أعجب معاوية ما سمع من كلام ابن هاشم فأمر به إلى السجن وكفّ عن قتله بالرغم من كل التحريض الذي مارسه ابن العاص وخوفه من الخروج عليه في المستقبل، إلى أن طلبه معاوية وقال له: "أتراك فاعلاً ما قال عمرو من الخروج علينا؟" قال: "لا تسأل عن عقيدات الضمائر لا سيّما إذا أرادت جهاداً في طاعة الله". قال: إذن يقتلك الله كما قتل أباك. قال: ومَنّ لي بالشهادة؟ فأخذ عليه معاوية موثقاً أن لا يساكنه بالشام فيفسد عليه أهله(8).
(*) مرَّت ترجمته في العدد السابق.
1.أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج8 ص89.
2.م.ن، ص90.
3.الأعيان، م.س، ص90.
4.الغدير، الأميني، ج1، ص196.
5.م.ن.
6.مروج الذهب، المسعودي، ج2 ص57.
7.أعيان الشيعة، م.س، ج8 ص89.
8.أعيان الشيعة، ج8 ص