السيّد علي عبّاس الموسوي
قرن الله عزَّ وجلَّ خَلقه للعباد بالهدايتين التكوينيّة والتشريعيّة، وذلك لأنَّ الفعل الإلهيّ كلّه إنما يصدر عن حكمةٍ بالغةٍ. ولمَّا كانت الحكمة تقضي بوصول الإنسان إلى الهدف والغاية التي لأجلها كان وجوده، كانت الهدايتان نعمةً إلهيّةً صادرةً عن الحكمة الربَّانية.
والهداية التشريعية التي تكفَّل بها ربّ العباد من خلال الأنبياء والرسل والأئمَّة الطاهرين، ثم من بعدهم نوّابهم في عصر الغيبة، ترمي إلى ضمان استمراريّة الهداية التشريعيّة بشكل يرافق الإنسان رفقاً به من جهة، وسحباً للذرائع التي قد يبرّر بها حالات الضلال والابتعاد عن طريق الحقّ والصواب، من جهة أخرى.
ويُشكِّل القرآن الكريم اللّسان الإلهيّ المبين، الخطابَ التشريعيّ الهدائيّ المباشر، مستخدماً كلّ ما يصبّ في سَوْق الناس من الظلام إلى النور.
ولكي يكون الهدى قيمة في ميزان الشخصيّة الإنسانيّة يستحقّ عليها المدح والثناء، كان لا بدَّ من أن تبقى في دائرة الاختيار، وضمن الحرية الممنوحة للإنسان، ومن هنا لا ثناء على ما يصدر بالحركة الخارجة عن الاختيار؛ إذ لا فضل فيه ولا عطاء ولا بذل.
والهداية كما تتضمَّن خطاب العاطفة والترهيب والترغيب، وهذا ما تجده مبثوثاً في آيات الكتاب الكريم، لِمَا للمشاعر والأحاسيس من دور في حياة الإنسان غير ممكنة التجاهل والتغاضي، كذلك تتضمَّن خطاب العقل الذي به كان امتياز الإنسان عن سائر خلق الله في هذا الكون العقل الذي هو معيار التكليف، الحجَّة على الخلق، ميزان الثواب والعقاب، باب رفعة الدرجات في الدنيا والآخرة.
ولكن يشير القرآن الكريم في بعض آياته إلى ظاهرة لافتة في حياة الإنسان، وهي الفصل بين امتلاك العقل وبين استخدامه، بين مجرّد حيازته وبين الانتفاع به، بين مجرّد التفاضل به على المخلوقات وبين تأثيره على الحياة التي تكون بالفعل أفضل من حياة الحيوان.
قد يمتلك الإنسان العقل، وقد يستخدمه في خدمة شهواته، بل يستنفد الحدّ الأقصى من طاقة هذا العقل لينعم في هذه الدنيا بكل حياة الرفاهية، الحياة التي تلبّي شهواته ورغباته وأمنياته. ولكنّه في ذلك كلّه لا يكون إنساناً، ولا يكون له الفضل على سائر المخلوقات، بل لعلّه يكون أضلّ سبيلاً منها، ولكن ذلك لماذا؟ وما هو السرّ في أن لا نجد في حياة الغرب بكلّ ما فيه من تطوّر ماديّ إلّا حياة حيوانية لا تجد للعقل فيها سبيلاً؟
إنَّ ذلك يرجع إلى تعطيل العقل في المجالات الأخرى الضرورية، مجالات معرفة الله، ومعرفة المصير، ومعرفة الإنسان. العقل الذي لا يتمكَّن من نيل هذه المعارف لن يكون عقلاً ممدوحاً وإن ارتقى في الحياة الماديّة إلى عالم الأحلام غير المتصوّرة حتى في الخيال الآن.
إنَّ الهدف الأساس هو التعقّل، والتعقّل يتجاوز مجرّد استخدام العقل، لأنّ التعقّل يعني الاستخدام الصحيح لهذا العقل، ومن هنا فكلّ خطاب القرآن والرسل والأنبياء والأئمّة الصالحين وورثة الأنبياء في عصرنا هذا أي العلماء الأعلام، لا سيما وليّ أمر المسلمين، لن يكون ناجعاً إلّا لمن يعقل، ولكن لا يعقل إلّا العالِمُون كما قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: 43).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.