الشيخ تامر محمد حمزة
عن ابن أبي عمير عن جميل بن درّاج، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "بَشِّر المخبتين [الخاشعين - المتواضعين] بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبا بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء، أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست"(1).
هي شخصيات أربع نالت شرف شهادة الوثاقة والصدق عند المعصوم عليه السلام وشرف الحفاظ على آثار النبوّة.
*البطاقة الشخصية والمكانة
محمد بن مسلم بن رياح أبو جعفر الأوقص الطحان مولى ثقيف الأعور، وجه أصحابنا بالكوفة. فقيه وَرِع، صَحِب أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام وروى عنهما، وكان من أوثق الناس، له كتاب يسمى "الأربعمائة مسـألة في أبواب الحلال والحرام"(2).
عدّه شيخ الطائفة قدس سره، في كتابه الرجال، تارة من أصحاب الباقر وأخرى من أصحاب الصادق عليهما السلام، وذكر أنّ سنة خمسين ومائة هي سنة وفاته عن عمر يقارب السبعين عاماً، وذكر ثالثة أنه من أصحاب الكاظم عليه السلام(3). وبناءً عليه، فإنّ محمد بن مسلم يكون قد عاصر ثلاثة من الأئمة الأطهار عليهم السلام.
وأما الشيخ المفيد قدس سره في رسالته العددية فقد ذكره من الفقهاء والأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفُتيا والأحكام الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم. وأما الكشي فقد ذكره في ترجمة بريد بن معاوية واعتبره ممن اجتمعت العصابة على تصديقهم وانقيادهم لهم بالفقه(4).
*أبو حنيفة يقرّ بفقاهة محمد بن مسلم
لقد بلغ محمد بن مسلم درجة علمية أقرّ له المؤالف وأناخت له رقاب المخالف، استعلمه الجاهل وردّ إليه العالم. ومن ذلك ما أورده العلامة الكشي بسنده إلى عبد الله بن بكير عن محمد بن مسلم قال: إني لنائم ذات ليلة على السطح إذ طرق الباب طارق فقلت: من هذا؟ فقال: شريك رحمك الله، فأشرفت فإذا امرأة فقالت: لي بنت عروس ضربها الطلق، فما زالت تطلق حتى ماتت، والولد يتحرك في بطنها ويذهب ويجيء، فما أصنع؟ فقلت: يا أَمَة الله سُئل محمد بن علي بن الحسين الباقر عليه السلام عن مثل ذلك، فقال عليه السلام: يشق بطن الميت ويستخرج الولد، يا أَمَة الله افعلي مثل ذلك، أنا يا أَمَة الله رجل في سِتر، مَن وجَّهك إليّ؟ قال (محمد بن مسلم): قالت لي: رحمك الله جئت إلى أبي حنيفة صاحب الرأي، فقال لي: ما عندي من هذا شيء ولكن عليك بمحمّد بن مسلم الثقفي، فإنّه يخبرك"(5).
*خزانة العلم
طوبى لرجل بات واحدة من الخزائن التي أودع فيها الأئمة عليهم السلام بعض علومهم يرشدون المتعلّمين إليها ويرجعون المسترشدين إليها. من جملة تلك الخزائن الشريفة "محمد بن مسلم"، ودلّ على ذلك ما رواه محمد بن قولويه بسنده إلى عبد الله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: "إنه ليس كل ساعة ألقاك ويمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه قال: فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنه قد سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً(6)؟".
وأما الدليل على كونه إحدى الخزائن وفيها كنوز أهل البيت عليهم السلام ما حدّث به حمدويه بن نصير بن حريز عن محمد بن مسلم، قال: "ما شجر في رأيي شيء قط إلّا سألت عنه أبا جعفر عليه السلام حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث وسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ستة عشر ألف حديث"(7). ونقل من سمع من عبد الرحمن بن الحجاج وحماد بن عثمان يقولان: "ما كان أحد من الشيعة أفقه من محمد بن مسلم"(8).
*الإمام الصادق عليه السلام يدافع عن محمد بن مسلم
عن أبي كهمش قال: "دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي: شهد محمد بن مسلم الثقفي القصير عند ابن أبي ليلى بشهادة فردّ شهادته؟ فقلت: نعم، فقال: إذا صرت إلى الكوفة فأْت ابن أبي ليلى فقل له: أسالك عن ثلاث مسائل لا تفتني فيها بالقياس ولا تقول قال أصحابنا، ثم سلْه عن الرجل يشكّ في الركعتين الأوليين من الفريضة، وعن الرجل يصيب جسده أو ثيابه البول، كيف يغسله؟ وعن الرجل يرمي الجمار بسبع حصيات فيسقط منه واحدة، كيف يصنع؟ فإذا لم يكن عنده فيها شيء فقل له: يقول جعفر بن محمد: ما حملك على أن رددت شهادة رجل أعرف بأحكام الله منك، وأعلم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك؟
أقول: لقد نفّذ أبو كهمش ما أمره به الإمام الصادق عليه السلام، وبعد عجز القاضي ابن أبي ليلى عن أن يجيب عن إحدى الثلاث أبلَغه رسالة الإمام الصادق عليه السلام التي يدافع فيها عن محمد بن مسلم، فقال له ابن أبي ليلى: والله إن جعفر بن محمد قال لك هذا؟ فقلت: والله إنه قال لي جعفر هذا، فأرسل إلى محمد بن مسلم فدعاه فشهد عنده بتلك الشهادة، فأجاز شهادته"(9).
*الإمام الباقر عليه السلام يعالج محمد بن مسلم
قال محمد بن مسلم: "خرجت إلى المدينة وأنا وَجِع ثقيل فأرسل إليَّ أبو جعفر بشراب مع الغلام مغطّى بمنديل فناولنيه الغلام، وقال لي: اشربه، أمرني ألّا أرجع حتى تشربه، فتناولته فإذا رائحة المسك منه، وإذا شراب طيّب الطعم بارد، فإذا شربته قال لي الغلام: يقول لك إذا شربت فتعال. ففكّرت فيما قال ولا أقدر على النهوض قبل ذلك على رجلي. فلما استقرّ الشراب في جوفي، كأنما نشطت من عقال، فأتيت بابه فاستأذنت عليه فَصَوَّتَ لي: فصحَّ الجسمُ ادخل ادخل، فدخلت وأنا باك، فسلّمت عليه وقبّلت يده ورأسه، فقال لي: ما يُبكيك يا محمد؟ فقلت: جعلت فداك أبكي على اغترابي، وبُعد الشقة، وقلّة المقدرة على المقام عندك، والنظر إليك، فقال لي: أمّا قلّة المقدرة، فكذلك جعل الله أولياءنا وأهل مودّتنا، وجعل البلاء إليهم سريعاً، وأمّا ما ذكرت من الغربة فلك بأبي عبد الله أسوة بأرضٍ ناءٍ عنا بالفرات، وأمّا ما ذكرت من بعد الشقة، فإن المؤمن في هذه الدار غريب وفي هذا الخلق المنكوس حتى يخرج من هذه الدار إلى رحمة الله، وأمّا ما ذكرت من حبك قربنا والنظر إلينا، وأنك لا تقدر على ذلك، فالله يعلم ما في قلبك وجزاؤك عليه"(10).
*فانٍ في إرادة إمام زمانه
روى حمدويه بسنده عن الطيالسي الأب قال: "كان محمد بن مسلم رجلاً موسِراً جليلاً، فقال له أبو جعفر عليه السلام: تواضع (يا محمد)، فأخذ قَوصرة من تمر فوضعها على باب المسجد، وجعل يبيع التمر فجاء قومه فقالوا: فضحتنا، فقال: أمرني مولاي بشيء فلا أبرح حتى أبيع هذه القَوصرة فقالوا: أما إذا أبيت إلّا هذا، فاقعد في الطحّانين ثم سلَّموا إليه رحىً فقعد على بابه وجعل يطحن، وقيل: إنه كان من العبّاد في زمانه"(11).
1- معجم رجال الحديث، السيد الخوئي، ج7 ص222.
2- رجال الكشي، ترجمة محمد بن مسلم.
3- رجال الطوسي، باب في ذكر أصحاب الأئمة عليهم السلام.
4- معجم رجال الحديث، م.س، ج13، ص248 نقلاً عن كتاب رجال البرقي.
5- مجمع الرجال، القهبائي، ج6، ص47.
6- معجم رجال الحديث، م.س، ج17، ص220.
7- تذكر الأعيان، الشيخ السبحاني، ص17.
8- م.س، ص253.
9- معجم رجال الحديث، م.س، ج17، ص250 - 251.
10- م.ن، ص254 نقلاً من كتاب الاختصاص للشيخ المفيد.
11- مجمع الرجال، م.س، ج6، ص251.