تبيّن في العدد السابق، أنّ الأعمال لها صُور تتشكّل في البرزخ والقيامة، فإن كانت من نار فهي جهنم الأعمال، التي يراها هناك ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ (الكهف: 49).
فيا أيها العزيز، لقد ثبت في العلوم العالية أن درجات الشدّة [للعذاب] غير محدودة، فمهما تتصوّر أنت ومهما تتصوّر العقول بأسرها شدّة العذاب، فوجود عذاب أشدّ أمر ممكن. وإذا كنتَ لم ترَ برهان الحكماء، ولم تصدّق كشْفَ أهل الرياضات، فأنتَ بحمد الله مؤمنٌ، تصدّق الأنبياء عليهم السلام، وتقرّ بصحة الأخبار الواردة في الكتب المعتبرة، التي يقبلها جميع علماء الإماميّة، وتقرّ بصحّة الأدعية والمناجاة الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام.. فتأمّل قليلاً في مضمونها، وفكّر قليلاً في محتواها، وتمعّن قليلاً في فقراتها، فليس ضرورياً أن تقرأ دعاءً طويلاً دفعة واحدةً وبسرعة، دون تفكّر في معانيه. أنا وأنت ليس لدينا حال سيّد الساجدين عليه السلام كي نقرأ تلك الأدعية المفصّلة بشوق وإقبال، اقرأ في الليلة ربع ذلك أو ثلثه وفكّر في فقراته، لعلّك تصبح صاحب شوق وإقبال وتوجّه، وفوق ذلك كلّه فكّر قليلاً في القرآن، وانظر أيّ عذاب وَعَد به، بحيث إنّ أهل جهنم يطلبون من الملك الموكل بجهنم أن ينتزع منهم أرواحهم. ولكن، هيهات فلا مجال للموت.. انظر إلى قوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ (الزمر: 56).
*لا تمرّ عليها دون تأمّل
فأيّة حسرة هذه التي يذكرها الله تعالى بتلك العظمة وبهذا التعبير؟ تدبّر في هذه الآية القرآنية الشريفة ولا تمرّ عليها دون تأمّل. وتدبّر أيضاً آية: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ (الحج: 2).
حقاً فكّر يا عزيزي! القرآن -أستغفر الله- ليس بكتاب قصة، ولا بمُمازحٍ لأحد، انظر ما يقول... أيّ عذابٍ هذا الذي يصفه الله تبارك وتعالى، وهو العظيم الذي لا حدّ لعظَمته ولا حصر، ولا انتهاء لعزّته وسلطانه، يصفه بأنّه شديد وعظيم؟! فماذا وكيف سيكون؟ الله يعلم، لأن عقلي وعقلك وعقول جميع البشر عاجزة عن تصوّره. ولو راجعت أخبار أهل بيت العصمة والطهارة وآثارهم، وتأمّلت فيها، لفهمت أنّ قضيّة عذاب ذلك العالم، هي غير أنواع العذاب التي فكّرتَ فيها، وقياس عذاب ذلك العالم بعذاب هذا العالم، قياس باطل وخاطئ.
*جهنم الأعمال أبرد النيران
وهنا أنقل لك حديثاً شريفاً عن الشيخ الجليل صدوق الطائفة، هذا الرجل العظيم، المولود بدعاء إمام العصر عجل الله تعالى وفرجه الشريف، وحظي بألطافه، لكي تعرف ماهية الأمر وعظَمة المصيبة، مع أنّ هذا الحديث يتعلّق بجهنّم الأعمال، وهي أبرد من جميع النيران.
روى الصدوق، بإسناده عن مولانا الصادق عليه السلام، قال: "بيْنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قاعداً إذ أتاه جبرائيل وهو كئيب حزين متغيّر اللون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: يا محمّد فكيف لا أكون كذلك وإنما وُضعت منافيخ جهنم اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما منافيخ جهنم يا جبرائيل؟ فقال: إنّ الله تعالى أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتى احمرّت، ثم أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضّت، ثم أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى اسودّت وهي سوداء مظلمة. فلو أن حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وُضعت على الدنيا، لذابت الدنيا من حرّها، ولو أنّ قطرة من الزقوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لماتوا من نَتْنها. قال: فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكى جبرائيل فبعث الله إليهما مَلَكاً، فقال: إنّ ربكما يُقرِئُكما السلام ويقول: إنّي أمِنتكما من أن تذنبا ذنباً أعذبكما عليه".
*ماذا دهانا لا نستحي في محضر الربوبيّة؟
أيها العزيز... إن أمثال هذا الحديث الشريف كثيرة، ووجود جهنم والعذاب الأليم من ضروريّات جميع الأديان ومن البراهين الواضحة، وقد رأى نماذج لها في هذا العالم أصحاب المكاشفة وأرباب القلوب. ففكّر وتدبّر بدقة في مضمون هذا الحديث القاصم للظهر، فإذا احتملت صحّته، ألا ينبغي لك أن تهيم في الصحاري، كمن أصابه المسّ؟!. ماذا حدث لنا لكي نبقى إلى هذا الحد في نوم الغفلة والجهالة؟! أنزلَتْ علينا - كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجبرائيل - ملائكة أعطتْنا الأمان من عذاب الله، في حين أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأولياءَ الله لم يقرّ لهم قرار إلى آخر أعمارهم من خوف الله، وما كان لهم نوم ولا طعام؟ فماذا دهانا وصرنا لا نستحي أبداً، فَنَهْتك في محضر الربوبية كلّ هذه المحرّمات والنواميس الإلهية؟ فويلٌ لنا من غفلتنا، وويلٌ لحالنا في البرزخ وشدائده، وفي القيامة وظلماتها ويا ويل لحالنا في جهنّم وعذابها وعقابها.