... وانظر أي عذاب توعَّد به (القرآن) بحيث أن أهل جهنم يطلبون من الملك الموكل بجهنم أن ينتزع منهم أرواحهم، ولكن هيهات فلا مجال للموت... انظر إلى قوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ فأية حسرة هذه التي يذكرها اللَّه بتلك العظمة وبهذا التعبير؟ تدبّر في هذه الآية القرآنية الشريفة ولا تمر عليها دون تأمل. وتدبَّر أيضاً في الآية: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾.
حقاً فكّر يا عزيزي: القرآن أستغفر اللَّه ليس بكتاب قصة، ولا يمازح أحداً، انظر ما يقول: أي عذاب هذا الذي يصفه اللَّه تبارك وتعالى وهو العظيم الذي لا حدّ ولا حصر لعظمته ولا انتهاء لعزته وسلطانه، يصفه بأنه شديد وعظيم، فماذا وكيف سيكون؟ اللَّه يعلم، لأن عقلي وعقلك وعقول جميع البشر عاجزة عن تصوره، ولو راجعت أخبار أهل بيت العصمة والطهارة وآثارهم، وتأمّلت فيها، لفهمت أن قضية عذاب ذلك العالم، هي غير أنواع العذاب التي ظننتها فيها، وقياس عذاب ذلك العالم بعذاب هذا العالم قياس باطل وخاطئ. وهنا أنقل لك حديثاً شريفاً عن الشيخ الجليل صدوق الطائفة، لكي تعرف ماهية الأمر وعظمة المصيبة مع أن هذا الحديث يتعلّق بجهنم الأعمال وهي أبرد من جميع النيران، وعليك أن تعلم أولاً أن الشيخ الصدوق الذي يُنقل عنه الحديث، هو الشخص الذي يتصاغر أمامه جميع العلماء الأعلام، إذ يعرفونه بجلالة القدر. وهذا الرجل العظيم هو المولود بدعاء إمام العصر عليه السلام، وهو الذي حظي بألطاف الإمام المهدي عليه السلام وعجل اللَّه تعالى فرجه الشريف وإني أروي الحديث بطرق متعدِّدة عن كبار علماء الإمامية رضوان اللَّه عليهم بأسناد متصلة بالشيخ الصدوق، والمشايخ ما بيننا وبين الصدوق رضي الله عنه جميعهم من كبار الأصحاب وثقاتهم، إذاً فعليك الاهتمام بهذا الحديث إن كنت من أهل الإيمان.
روى الصدوق، بإسناده عن مولانا الصادق عليه السلام، قال: بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ذات يوم قاعداً إذ أتاه جبرئيل وهو كئيب حزين متغيِّر اللون فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: يا محمد فكيف لا أكون كذلك وإنما وُضعت منافيخ جهنّم اليوم. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: وما منافيخ جهنم يا جبرئيل؟ فقال: إن اللَّه تعالى أمر بالنار فأُوقِدَ عليها ألف عام حتى احمرّت، ثم أمر بها فأُوقِد عليها ألف عام حتى ابيضّت ثم أُمر بها فأوقِد عليها ألف عام حتى اسودّت وهي سوداء مظلمة. فلو أن حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وُضعت على الدنيا، لذابت الدُّنيا من حرِّها ولو أن قطرة من الزَّقوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لماتوا من نتنها. قال: فبكى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وبكى جبرئيل فبعث اللَّه إليهما ملكاً، فقال: إن ربَّكما يُقرئكما السلام ويقول: إني أمِنتُكما من أن تذنبا ذنباً أعذبكما عليه.
أيها العزيز: إن أمثال هذا الحديث الشريف كثيرة، ووجود جهنم والعذاب الأليم من ضروريات جميع الأديان ومن البراهين الواضحة، وقد رأى نماذج لها في هذا العالم أصحاب المكاشفة وأرباب القلوب. ففكّر وتدبر بدقّة في مضمون هذا الحديث القاصم للظهر، فإذا احتملت صحته، ألا ينبغي لك أن تهيم في الصحاري، كمن أصابه المس؟! ماذا حدث لنا لكي نبقى إلى هذا الحد في نوم الغفلة والجهالة؟! أنزِلَتْ علينا كرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وجبرئيل ملائكة أعطتنا الأمان من عذاب اللَّه؟ في حين أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأولياء اللَّه لم يقر لهم قرار إلى آخر أعمارهم من خوف اللَّه، وما كان لهم نوم ولا طعام. علي بن الحسين عليه السلام وهو إمام معصوم، يقطع القلوب بنحيبه وتضرعه ومناجاته وعجزه وبكائه، فماذا دهانا وحدنا لا نستحي أبداً، فنهتك في محضر الربوبية كل هذه المحرمات والنواميس الإلهية؟ فويل لنا من غفلتنا، وويل لنا من شدّة سكرات الموت، وويل لحالنا في البرزخ وشدائده، وفي القيامة وظلماتها ويا ويل لحالنا في جهنم وعذابها وعقابها.