جمعية قبس لحفظ الآثار الدينية في لبنان
*الموقع
تقع بلدة النبيّ شيث عليه السلام في وسط شرق سهل البقاع على السفح الغربيّ لسلسلة جبال لبنان الشرقيّة. تعلو عن سطح البحر 1220م، وتبعد عن العاصمة بيروت 71 كلم، ويتمّ الوصول إليها عبر: الحازميّة – بعبدا – الجمهور – عاليه – ضهر البيدر – شتورا – زحلة – النبي شيث.
تحدّها شرقاً: بلدتا جنتا ويحفوفا وأراضي بلدة سرغايا السوريّة، ومن الجهة الغربيّة: بلدة السفري وحوش النبيّ والسهل، ومن الجنوب الغربيّ: بلدتا سرعين والناصريّة، ومن الشمال الشرقيّ: بلدتا الخريبة والخضر.
تنسب البلدة لمقام النبيّ شيث عليه السلام، ويعود تاريخها إلى ما قبل حقبة الميلاد. وقد وجِدت فيها آثار لقطع معدنيّة أثريّة تعود للعصر الرومانيّ وآثار تعود للعصر العربيّ الإسلاميّ.
*صاحب المقام
"شيث بن آدم" عليهما السلام. وُلد بعد مقتل هابيل فعرف بـ"هبة الله". تزوّج من حوراء من الجنّة اسمها "نزلة". عاش 912 سنة، وقيل 1040 سنة.
النبيّ شيث عليه السلام، وصيّ أبيه آدم عليه السلام وخليفته ووارث علمه. أنزل الله عزّ وجلّ عليه خمسين صحيفةً، كما ورد عن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم(1). ومذكور في زيارة الناحية المقدّسة: "السلام على شيث وليّ الله وخيرته".
أوصى إلى ابنه "أنوش"، فقام بالأمر بعده، ثمّ "قينن" ثم "مهلائيل" ومن ثمّ "أخنوخ" أي إدريس عليه السلام إلى أن وصل الأمر إلى نبي الله نوح عليه السلام، فالبشر ينتسبون إلى نوح بن شيث بن آدم عليهم السلام.
*أتباع شيث عليه السلام الشاسو
هم جماعة من البدو الرعاة، كانوا يسكنون في لبنان وفلسطين، ففي لبنان كانوا في أرض رطنو [الليطانيّ] كما تُعرّفهم نصوص الفراعنة والرافدين، وفي منطقة جاهي أو زاهي [اسم منطقة فرعونيّة كان يطلق على الساحل الجنوبيّ للبنان، في الألف الثاني قبل الميلاد]، كما تُعرّفهم النصوص الفرعونيّة، وفي جبال خارو [أي الحوريّين] الذين سكنوا في أعالي جبل عامل.
عُرفوا بالشاسو، أو الشاتو، وهم أتباع الإله [والنبي] شاث أو شيث، بحيث أطلق كثير من المؤرخين لفظة "شاث" على النبيّ شيث عليه السلام، فقالوا: "هو بالعربيّة شث وبالسريانيّة شاث وبالعبرانيّة شيث..."(2).
ورد ذكر ثلاث مدن للشاسو في السجلّات الفرعونيّة التي تعود للقرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد مع أسماء ملوكها وهم: "أيابم، وكوثر، وزبلانو". وتُوجد في جبال عاملة ثلاث قرى تحمل اسم الشيثيّين وهي: جبشيت، وبرعشيت، وعدشيت، وفي قرى جبيل عمشيت، وفي عكار حبشيت.
*"شيث" جبل عامل
وإذا ما استعرضنا آثار "شيث"، في جبل عامل، نجد لدى الأهالي اعتقاداً عميقاً بالمزارات الموقوفة له في القرى المنتسبة إليه. وكذلك قرب بلدة حاصبيا عند كعب جبل حرمون مقام خاصّ باسم "النبي شيث" زاره الباحث "بروس كونديه" سنة 1953، ولاحظ وجود خزف حوله يعود إلى عصر البرونز، ورأى نقشاً على بلاطة بازيلت يحمل رسم الإله "تانيت"(3).
*بناء المقام الشريف
يعود بناء المقام الشريف في التاريخ إلى مئات السنين. وتُظهر وقفيّة المقام وجوده قبل أكثر من 900 سنة، حيث تنصّ على أنّ "الخواجة محمّد العصي قد أوقف أراضيه لمقام النبيّ شيث عليه السلام بتاريخ السادس عشر من ذي القعدة من 518 هـ، وجعل عائداتها لبنائه وخدماته". وأُعيد بناء المقام منذ أكثر من 400 سنة، بحسب التاريخ المنقوش على حجارة صخريّة قديمة لا تزال موجودة في المقام: لمـّا كانت سنة اثنتا عشرة بعد الألف من شهر ربيع الأوّل شيّد مقام النبيّ المبارك "محسنة ابنة الدين" غفر الله لها ولوالديها - ويبدو أنّ المحسنة الكريمة لم تذكر نسبها تقرّباً لله وإخلاصاً في العمل.
شهد المقام بعد ذلك أعمال توسعة وتحسين عِدَّة، أهمّها ما قام به الحاج حسن الهمداني - وهو الجدّ الأول لعائلة الحاج حسن البقاعية حاليّاً - منذ أكثر من مائتي سنة، حيث عمل على إعادة تأهيله وتوسيعه، بعد أن رأى النبيّ شيث في منامه يطلب منه ذلك. وقد استدعى هذا الأمر من الحاج حسن الإقامة مع عائلته قرب المقام لرعايته، ما جعل المنطقة من حوله مع السنين تشدّ إليها الرحال طلباً للبركة، وبعضهم قصدها للإقامة والسكن، فتكوَّنت لاحقاً ونشأت بلدة سُمّيت باسم "النبيّ شيث". ومن أبرز عائلات هذه البلدة اليوم آل الموسوي، وآل شكر، وآل حلباوي وآل هزيمة.
*مرقد النبي شيث عليه السلام
وهكذا استمر وجود هذا المقام، وكان طوال الفترة اللاحقة عبارة عن حوش خارجيّ فيه أشجار معمّرة، وفيه مسجد مرتفع، وله قبّة خضراء بناها الحرافشة، وبمحاذاتها لجهة الجنوب يوجد مرقد النبيّ شيث عليه السلام، في فناء الحوش الخارجيّ.
وفي العام 1995م هُدم المقام القديم وأعيد بناؤه وهو حاليّاً عبارة عن مبنى يحتوي على الضريح الشريف الذي يحيط به مجموعة أقواس تراثيّة الشكل ملبّسة بالكاشي، وإلى جانبه بُني مسجد للصلاة الجامعة، وأمامه باحة خارجيّة مفتوحة.
يتسم طابعه المعماريّ بالحداثة حيث بُني بالخرسانة المسلّحة وأحجار الباطون، وتمّ تلبيسه بالحجر الصخريّ وتزيينه بالكاشي والأقواس وتعلو المقام قبّة خضراء. احتفظ المقام بالمئذنة القديمة وأُنشئت مئذنة حديثة ثانية. وهذه التجديدات التي أُقيمت للمقام أخفت القبور الدوارس التي كانت في باحته واختفت معها الشواهد التي كانت تفصح عن جانب من تاريخ المنطقة.
*المقام اليوم
يختلف المقام اليوم عن سابق عهده، فبعد إنجاز التوسعة الأخيرة له، أصبح يتألّف من عدّة طوابق: في الطابق الأرضيّ قاعة كبيرة بمساحة 400 متر مربّع، تضم ضريح النبيّ شيث عليه السلام الذي يبلغ طوله 30 متراً، وعرضه خمسة أمتار، وهو مسوّر بقفص من الحديد، وقاعة أخرى للصلاة، ومذبح للأضاحي والنذور مع قاعة للطعام، ومغاسل للوضوء، ومكان لتجهيز الموتى، وفوق الطابق الأرضي ثلاثة طوابق أخرى.
أمّا بخصوص طول الضريح حتّى بلغ ثلاثين متراً بعرض خمسة أمتار، فلعلّ مردّ ذلك إلى أنّ موضع القبر الشريف الذي هو ضمن هذه المساحة خيف أن تطأه أقدام الزوّار، خاصّةً في المناسبات الدينيّة التي يكثر فيها القادمون وطالِبو الحاجة من الله بالدعاء عند القبر المبارك(4).
تبقى أبواب المزار مفتوحةً كلّ أيّام السنة لاستقبال الزوّار لا سيما في المناسبات المباركة وفي مقدّمتها ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في النصف من شعبان، إذ يتحوّل المقام وما حوله إلى مكان يتلاقى فيه المؤمنون.
1.الجواهر السنية، الحر العاملي، ج25.
2.تاريخ الطبري، ج1، ص102. الأغاني، ج1، ص17. يصرّح بعض المؤرخين بأنّ الشاسو كانوا من العمالقة الذين فتحوا مصر، ويسميهم اليونان هكسوس، وكانوا لاحقاً أعداء اليهود، راجع البيان والإعراب، ج1، ص16. تاريخ الفكر الدينيّ الجاهليّ، ص96.
3.المجهول والمهمل، ص12 – 75. معجم أعلام جبل عامل، ج صفر، ص45 – 47.
4.مقام النبيّ شيث عليه السلام، أحمد الموسويّ، ... هبة وبركة من الله، مجلّة النجف، العدد9، 2007م.