آية الله ناصر مكارم الشيرازي
بيّن الشيرازي في الحلقة السابقة أهمية الإدارة في بناء المجتمعات السليمة واعتبرها روح التشكيلات التنظيمية وأن البعد عنها لا يولد إلا الهزيمة والفشل والشقاء وأوضح أن هذه الإدارة ما هي إلا انسجام مع النظام الواحد والإدارة الواحدة التي تهيمن على العالم بإدارة الله سبحانه وتعالى.
في هذه الحلقة يكمل بحثه في الحديث عن أهداف الإدارة.
لا شك أن أهداف الإدارة في الإسلام لا يمكن أن تنفصل عن أهداف الحكومة الإسلامية التي تجعل الإدارة جزءاً من جسمها، وعلى هذا ينبغي أن ندرس أهداف الحكومة في الإسلام في الدرجة الأولى حتى نحدد هدف الإدارات التي تشكل بدن هذه الحكومة. بل ينبغي النظر إلى أبعد من هذا وهو موضوع هدف خلقة البشر المطروح في الرؤية الكونية الإسلامية وذلك لتحديد الفهم الدقيق لأهداف الإدارة الإسلامية إذا أنها بدونه تفقد شكلها الإسلامي وتتحول إلى صبغة غربية وشرقية.
إذاً لأجل فهم هذه المسائل الكلية يلزم البحث المطوّل ولكننا هنا مضطرون لضيق المجال إلى اختصار الكلام.
* الحكومة الإسلامية وسيلة لأجل الوصول إلى الأهداف الأربعة الكبرى
من البديهي أن الإسلام لا ينظر إلى قضية الحكومة كهدف، بل يعتبرها "وسيلة" لأجل تحقق الأهداف الكبرى للدين. أمّا ما هي هذه الأهداف وكيف تتحقق؟ فيمكن بنظرة عامة أن نلتفت إلى أربعة أهداف أساسية ليست أهدافاً للحكومة الإسلامية فقط وإنما للإدارة التي تنشأ منها أيضاً:
1- إيقاظ وتوعية الناس.
2- التربية المعنوية وإحياء القيم الأخلاقية.
3- إقامة القسط والعدل بصورة ذاتية نابعة من كيان المجتمع.
4- تحرير الإنسانية من جميع أنواع الأغلال والأسر.
ولأجل إدراك عمق هذه الأهداف من الأفضل أن نرجع إلى القرآن كونه المستند الديني المعتبر والأشد أصالة.
* القرآن يقول بشأن التوعية والتربية الإنسانية:
﴿وهو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (الجمعة، 2).
فقد اعتبر الهدف من البعثة هنا: نجاة البشرية من الضلال المبين، وذلك عن طريق تلاوة الآيات الإلهية والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة (أنواع العلوم). وكان تكليف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم توجيه برامجه على أساس الوصول إلى هذين الهدفين الكبيرين: التربية والتعليم.
من الملفت أننا نجد أنه في القرآن الكريم تقدم أحياناً التربية على التعليم وأحياناً أخرى التعليم على التربية. وهذا إشارة إلى أن لكل واحد منهما تأثيراً متقابلاً على الآخر، وأن قسماً من مراحل الوعي يعد منبعاً للتربية الأخلاقية كما أن الاستعدادات الأخلاقية تكون منبعاً للحركة باتجاه الوعي والمعرفة الصحيحة التي لا حجاب عليها ولا ستار. وبهذا الاعتبار عدّ القرآن أساس هداية المتقين:
﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (البقرة، 2).
من البديهي أن الوصول إلى هذين الهدفين لا يتم إلاّ عن طريق الحكومة. إذ كيف يمكن تحقيق مسألة التربية والتعليم بدون شبكة واسعة للتعليم تخطط من قبل الحكومة وتغذّى عن طريق بيت المال؟ وكيف يمكن تحقيق الأهداف الأساسية لهما في صناعة الإنسان وتهذيب الأخلاق وتزكية النفوس وتقدّم العلم والثقافة بدون الاستناد إلى حكومة قوية؟
ولنا أن نتساءل لماذا يوجد في الخطوط الأساسية والأصلية للسياسات الاستعمارية مسألة الاستعمار الفكري؟ لماذا تعبأ كل القوى من الحضانة حتى الجامعة ومراكز الإعلام المختلفة حيث يستفاد من الأدمغة والمفكرين من أجل إحكام الأسس الاستعمارية؟أليس هدفهم جعل المصلحين الإلهيين وأحرار العالم ينزون حتى يصلوا هم إلى أهدافهم المشؤومة.
إن البرامج المدرسية والجامعية والثقافة العامة ووسائل الإعلام المختلفة إذا لمتكن بأيدي القوى المؤمنة والطاهرة والواعية فلا يمكن أن تحقق أهداف الأنبياء في التربية الإنسانية التي تقود إلى تهذيب النفوس. ولأجل تحقيق هذه الأهداف المهمة لا يوجد بديل عن إقامة "الحكومة الإلهية".
* إن إقامة القسط والعدل بالصورة الذاتية والنابعة من عمق المجتمع يعد أيضاً هدفاً مهماً آخر من أهداف بعثة الأنبياء وإرسالهم التي ورد ذكرها في القرآن:
﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط...﴾ (الحديد، 25).
هذا الهدف أيضاً لا يمكن تحقيقه بدون تشكيل الحكومة. إذ كيف يمكن إزالة القوى الشيطانية العالمية التي لا تعترف إلا بمصالحها الخاصة واستبدالها بحكومة المستضعفين بدون قدرة الحكومة؟ وهل تكفي الدلائل المنطقية التي يقدمها العلماء أو نصائح المصلحين والقيم الإنسانية لردع هؤلاء عن غيّهم أو حتى للتفاهم معهم؟ هل يجوز أن نجلس مكتوفي الأيدي نشاهد شبع الظالم وجوع المظلوم ثم نجعل رسالتنا والتزامنا أمام كظة الظالم وسغب المظلوم نصائح لهم؟! أيمكن إقامة القسط والعدل بدون استخدام القوة والسلطة فيحق فاقدي الأخلاق وعديمي المنطق؟ بالطبع ينبغي أن ندعو عامة الناس عن طريق التوعية والتربية الصحيحة وإحياء القيم الأخلاقية ولكن كيف يمكن إقامة القسط مقابل المستكبرين بدون الحكومة؟
* وأخيراً نجد أيضاً أن تحرير الإنسانية من أغلال الأسر هو هدف آخر أصيل لبعثة الأنبياء، حيث جاء في القرآن الكريم وبتعبير صريح:
﴿... ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم﴾ (الأعراف، 157).
وهنا كيف يمكن إزالة أغلال الأسر السياسي والعسكري والاقتصادي وحتى الأسر الثقافي بدون الإمساك بزمام الحكومة؟ صحيح أن الأهداف الجزئية والقريبة في مختلف الإدارات هي الوصول إلى الحد الأقصى من الإنتاج بمدة زمنية أقصر وخسائر أقل، وكمثال على ذلك نجد أن هدف الإدارة الصحيحة لمصنع نسيج هو تأمين إنتاج كبير ومرغوب بتكاليف أرخص وخسائر أقل، أو مثلاً أن القيادة الصحيحة لمسؤول هي في أداء المهمة الحربية الخاصة بصورة كاملة وصحيحة ولكن أيضاً بخسائر أقل...
ولكن من وجهة نظر الإنسان المسلم لا يمكن أبداً فصل أهداف هذه القيادة أو تلك الإدارة عن الأهداف العامة الإلهية والإنسانية للدين، ولا يمكن الاقتناع بتلك الأهداف على أن يتم بعدها تشكيل الحكومة. بل ينبغي توجيه كل الأهداف الجزئية نحو تلك الأهداف الكلية العليا ومن هنا تفترق أسس وأهداف الإدارة والقيادة في الإسلام عن الإدارة المادية للشرق والغرب لتأخذ شكلها وأدواتها الخاصة
﴿صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة...﴾ (البقرة، 138).
المهم إذاً في الحكومة الإسلامية أن تكون كل المعايير خاصة معيار الإدارة إسلامية خالصة وتنبع من الكتاب والسنّة. ومتى ما اتضحت هذه الحقيقة واستعملت هذه المعايير فيحل المشاكل الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية فإن الحكومة بمعاييرها هذه ستتفوق على كل المعايير المعروفة في الشرق والغرب ولكن الخوف من أن تصل هذه الإدارات لا سمح الله على أثر التساهل وعدم رعاية الموازين الإسلامية إلى الطريق المسدود بحيث يعتبر الأعداء ذلك سبباً لضعف أصول الإدارة في الإسلام ويرون الدين غير لائق لهذا الأمر. وهذه مصيبة كبرى وخسارة لا تجبر.