تحقيق: زينب صالح
مرَّ أحد الأنبياء عليه السلام برجلٍ أبرص ومشلول وأعمى، فرآه جالساً يحمد الله ويقول له: "الحمد لك على أنّك عافيتني مما ابتليتَ به غيري". تعجّب النبي وجلس قربه وسأله: وممّ عافاك الله يا عبد الله؟ فأجابه بثقة: "عافاني من الذنوب التي يقترفها غيري".
قصة مختصرة توضح الزوايا التي يراقب بها عباد الله فيض النعم الإلهية على العبد من خلال بلاءاته. نعم قد لا يقدّر الجميع البلاء على أنّه رحمة إلهيّة، وتخفيف للذنوب وارتقاء بالعبد من أضغاث الدنيا نحو ملكوت روحي غير فانٍ ولا زائل. فما يفرّق بين إنسان وآخر - من أهل البلاء - هو شدّة تعلّقه بالله، وإيمانه بأن الله "إذا أحب عبداً ابتلاه، ومحّصه بالبلاء تمحيصاً" على قاعدة الآيات القرآنية: ﴿وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 155-157).
هنا بعضٌ من نماذج لمن عانوا أشكالاً متعددة للبلاء، فكان الله المعين الوحيد الذي لا يتركون دق بابه حمداً للنعمة وتمسكاً برحمته الإلهية:
*البلاء يطرق كل الأبواب
في الدنيا الفانية التي لم تبقَ لأحد من قبلنا، ولن تبقى لأحد من بعدنا، الجميع معرّض لكل أنواع البلاء. لا تلبث الأمراض أن تدقّ أبواب كل العائلات، فلا يميّز الموت بين صغير وكبير، أو ابن وأب، ليكون فقدُ العزيز أشدَّ وأصعب ما قد يُمنى به الإنسان.
ولا يقتصر البلاء على الموت، إذ يشكل فقدان إحدى الحواس أيضاً معضلة كبيرة عند المبتلى وأهله. ولعل المثل القائل: "إنْ أردتَ أن تعرف نعمة الله عليك أغمض عينيك"، ما هو إلّا دليل على أن فقدان البصر قد يكون من أصعب البلاءات، إذ يحرم المرء من التمتع بألوان الحياة.
نبقى مع القصص التي تحكي عن حالها:
* لسان حالها: يا رب
بيتها خالٍ إلّا من قليل. في الصالة تلفاز يقطع بعض حبال الوحدة المتشابكة في حياتها، وفي يدها هاتف تحفظ فيه الأرقام بطريقة يسهل فيها طلب الرقم عند الضرورة.
لم تُرزق بأطفال قبل طلاقها ظلماً، والسبب وراء ذلك لم تقترفه هي، بل هي مشيئة وتقدير من الله، فالحاجة "ميمونة" ضريرة، لا تبصر.
فوق الكنبة المريحة تتذكّر أحداثاً كثيرة، لا وجود للسعادة بين أسطرها. فمنذ سنين طفولتها الأولى وهي تعاني من فقر شديد بسبب غياب المعيل المادي بوفاة الأب، وإهمال الإخوة والأقارب. لم تذهب إلى المدرسة قط، بل كانت مجاورة لأمها، لا تغادر غرفتهما المشتركة تلك التي شكلت كل بيتهما، دون أن يتبعها مطبخ أو حتى حمام.
"كانت أمي ترفض أن أختلط بالعالم لأني وحيدتها، فإخوتي من أبي متزوجون وكلٌ في بيته، وأنا وهي في غرفة واحدة، كانت هي كل بيتنا". أما سبب منع أمها من الاختلاط بالعالم فكان "ضعف بصري. حيث كانت تهمّشني أحياناً كثيرة، وكذلك إخوتي، رغم أني كنت أرى وأميز الألوان ولا أحتاج أحداً. فذنبي الوحيد في هذه الحياة كان ضعف بصري، الأمر الذي جعل الجميع ينظر إليّ كأني فتاة معوّقة، لا يجب أن ترى الناس ولا أن يروها، فضلاً عن أني لم أجد من يهتم بي". ثم تبرّر لأمها قائلة والدمعة في عينيها: "لكني لا ألوم أمي، فهي كانت ترفض أن أزور أحداً خشية أن يبادلونا الزيارة أيضاً، فقد كنا فقراء جداً، لا نملك ثمن الضيافة". ثم تضيف: "لكن بحمد الله وفضله، فتح الله عليّ أبواب رزقه، فعملت في التجارة. تعبت كثيراً، لكنّي لم أحتج بعدها أحداً. وكان الكل معجباً بي، وبقدرتي على الحساب والتعاطي مع أمور تجارتي المتواضعة. لولا الله لكنت الآن أتسوّل اللقمة كي أبقى على قيد الحياة. لم أعترض يوماً على مشيئة ربي، لم أقل له: لماذا يا رب أخذت بصري؟ فقد فقدت بصري كلياً في حرب تموز، عندما خرجت من الملجأ فوراً إلى النور، وعندما سمعنا ما سمعنا من ضرب وقصف". ثم تقول بحسرة: "أصعب ما قد يصيب الإنسان هو أن يفقد بصره. صعب أن لا أعرف الطرق، وأحتاج إلى من يوصلني إلى أي مكان أريده. لكني أواسي دائماً نفسي بأن الله معي، وهو ما ابتلاني إلا ليعينني. فأنا وحيدة، وهو سلواي الوحيدة".
* بيت الرحمة الإلهية!
كان "علي" ذكياً، تعلم في الوقت الذي لم يستطع كثيرون دخول المدارس، وإن دخلوها قلّ من أكمل. تخرّج منها بتفوّق، ليتوّج فرحة والديْن فلّاحين فقيرين عبر تسلّمه وظيفة معلّم في إحدى المدارس الرسميّة. لكنّ الفرحة لم تكتمل، إذ مُنيَ بفقد بصره تدريجياً إلى أن اختفى مطلقاً.
ولم يقتصر الأمر عليه، إذ بدأ إخوته يعانون من المشكلة ذاتها، ثم يفقدون بصرهم كلياً الواحد تلو الآخر، ليصبح شباب "أم علي" الأربعة لا يبصرون حتى وجه أمهم، التي لا تعاني ولا الوالد من أي مشاكل صحية.
ولم يستثنِ المرض العجيب ذاك البنات في العائلة، إذ أصاب "رباب" بعدما أنهت عامها الثانوي الأول بنجاح وتفوق، مردياً إياها في البيت، من دون تعليم. وسرى أيضاً ليصيب أختيها حتى أصبح البيت برمّته يعاني من فقدان البصر، ما عدا ثلاث بنات.
"كان زوجي صبوراً جداً، متمسكاً بربه إلى أقصى الدرجات. وكنت أخاف كثيراً على صحّته وحياته، فأزرع التبغ وأعمل في الأرض أكثر منه كي نعيل عائلتنا الكبيرة. وكلّما فقد أحد أبنائنا بصره، كان يقول: إنّ الله أنعم عليه وأحبّه أكثر، بالمزيد من بلاءاته".
* الألم يجعلنا أكثر قرباً
تكرّر الحاجة الكبيرة في السن حادثة رأت فيها زوجها جالساً يصلي خاشعاً، متوجهاً إلى ربه قائلاً: "الحمد لله يا ربي على ما خصصتني به ولم تخصص به غيري". فجلست قربه وانتظرته حتى ينتهي من صلاته لتسأله عن سرّ قوله ذلك، فأجابها: "خصّني بعمى أولادي، ولم يخصّ غيري بهذه الرحمة! فما أقربنا إلى الله لحظات الألم!".
وهكذا كبر الجميع في بيتٍ حافل بذكر الله وأهل البيت عليهم السلام، والرضا بمشيئة الله الذي أفاض على الأهل صبراً وقناعة وعلى الأولاد بصيرة يعجب منها الجميع."ما من أحد زارنا إلّا وتعجّب من بيتنا، أولادي يعرفون القيام بكل الأعمال، يميّزون الأصوات، ولا يحتاجون أحداً". وتروي كيف كان يتهافت الجيران لينظروا إلى رباب وهي تنشر الغسيل على الحبال، بترتيب ومهارة، ثم تدخل البيت لتعجن وتصنع الخبز، وتخيّط الثياب وتُدخل الخيط في رأس الإبرة، فضلاً عن مهارتها العالية في الطبخ، إذ يحب الجميع تناول ما تصنع من طعام. تبتسم رباب عندما تسمع حديث أمها، فهي مرة لم تعتبر فقدان بصرها، وفقدان فرصة أن تكون زوجة وأماً، بلاءً، بل رحمة إلهية، غمرها الله بها كي يحسن عاقبتها في الآخرة، إذ تقول: "في الألم شعور قوي بوجود الله، ولذة لا يعرفها إلا من تجرّع من الألم أشدَّه. نعم أبكي أحياناً، فالدموع وسيلة للتعبير عن ذاتي أمام ربي، وما البكاء سوى عامل يقربني من الله أكثر". ثم تضيف: "العمى عمى القلب وليس عمى العين. لقد كنت مجتهدة ومتفوقة في الدراسة وأحببت أن أتابع تعليمي، لكن ظروفنا المادية حالت دون ذلك. إلا أني بفضل الله أمارس حياتي بشكل طبيعي، من دون أية مشكلات وكذلك إخوتي".
تتابع أمها الكلام، واستذكار أحداث محزنة وأخرى مبكية في رحلة جهادها الطويلة. "عندما زوّجت ولديّ، مرت 3 سنوات دون أن يرزقا بأولاد، الأمر الذي آلمنا كثيراً. وكان أصعب يوم مرّ علينا عندما زارا الطبيب في الوقت الذي لم يكن فيه التداوي أمراً مقبولاً اجتماعياً. عدنا إلى المنزل وكأنّ هموم الدنيا كلها صبّت فوق رأسنا ليأتي ابن أخي على عجل ويبشرنا بأن لا مشكلة عندهما وأن الإنجاب بيد الله. فرحنا كثيراً شاكرين الله الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد. وما كانت إلا بضعة أيام حتى بشّرنا أنّنا ننتظر حفيدين، وفعلاً أنعم الله علينا بهما في الوقت عينه لنُرزق لاحقاً بأحفاد كثيرين، سالمين، عطوفين، أخلاقهم عالية، وكأنّ الله يعوضنا من فضله".
ثم تنظر إلى صورتين معلقتين على الحائط، صورة زوجها الذي رحل باكراً بشكل مفاجئ، تاركاً لها عدداً من الأيتام وعبئاً كبيراً أعانها عليه أهل الخير، وصورة حفيدها البار الحنون الذي استشهد في حرب تموز 2006. تعلّق رباب: "ابن أخي الشهيد كان أحن من في العائلة، جليسنا ونديمنا وحبيبنا، لكنّ اختياره ليكون شهيداً مجاهداً، كان نعمة كبرى، أضافها الله إلى بيتنا، نعمة نشكره علينا كل صباح ومساء".