إنّ موضوع الارتباط بالله تعالى قد طرح في المدرسة الإسلامية كمحور أساسي تدور حولها جميع التعاليم والأعمال قاطبة. وفي البعد الأخلاقي الذي يمثّل التعاليم الإلهية المرتبطة بالجانب الروحي الباطني للإنسان تأكّد هذا الأمر ليشمل كلّ شيء.
ومن جانب آخر، نجد أنّ هناك تصوّرات مختلفة حول حقيقة التعاليم الأخلاقية. تأثّر معظمها بالتيارات الفكرية التي دخلت إلى عالم الإسلام عبر حركة الترجمة الكبرى التي قادها ملوك بني العباس لأجل مواجهة عظمة التأثير العلمي لأهل البيت عليهم السلام.
فلقد بدأ العباسيون حكمهم وهم يرون الصيت الذائع للإمام الصادق عليه السلام وانتشار علوم أهل البيت في المجتمع الإسلامي. ولم تمضِ فترة طويلة حتّى قاد الإمام الكاظم عليه السلام أعظم ثورة معنويّة في مواجهة الانحطاط المفجع الذي أصاب عالم الروح والمعنويات من جرّاء تدفّق الثروات.
فأمام هذا كلّه، لم يكن أمام العباسيين إلاّ أن يطرحوا بديلاً "مهذباً" من العلوم والمعارف، فشجعوا على الترجمة وأجزلوا العطايا، حتّى ذكر المؤرخون إنّ المترجم كان يتقاضى لقاء ترجمته ما يعدل وزن كتابه "المخطوط على جلد الغزال" ذهباً. وكان مما دخل إلى المجتمع الإسلامي تلك الأفكار الأخلاقية لليونان والفرس القدماء والهنود.
أضف إلى ذلك، التأويلات الخطيرة لجميع تعاليم القرآن ومعارفه على أيدي من تركوا النص والإمامة. ومن بعدهم جماعة الصوفية الذين انتهجوا في الدين والأخلاق مسلكاً ينطلق من اجتهاداتهم الخاصّة.
وكانت الحصيلة الكبرى: إنّ التعاليم الأخلاقية لم تنج من التأويلات والتفسيرات الخاصّة بعيداً عن روح الإسلام. وألّفت الكتب الكثيرة في هذا المجال ونشأت الفرق المتعدّدة؛ كلّها تحمل شعار حماية المعنويات التي تصدّعت أركانها داخل المجتمع الإسلامي.
ثمّ مرّت السنوات المريرة من القمع والتنكيل، ورغم اهتمام الفقهاء العظام بالاجتهاد في المسائل الفردية والاجتماعية التي ترتبط بظاهر الشريعة – ولهذا تبريره المعقول – لم تمرّ الحركة الاجتهادية العظيمة على التعاليم الأخلاقية – بالصورة التي جرت في الأبواب الأخرى – ممّا أدى إلى خروج التعاليم الأخلاقية عن قداستها وعظمتها في أذهان الكثيرين وضعف رواجها وانتشارها في أوساط الطالبين. حتّى بدت المسائل الأخلاقية لا تعدو كونها من الأمور التي تقترب من المستحبات.
هل يمكننا أن نكون تصوّراً دقيقاً ومستوعباً لمدرسة الأخلاق الإسلامية دون الالتفات إلى هذا السياق التاريخي؟.
نحن نشكّ بذلك. ورغم أنّ الإمام الخميني قدّس سرّه الشريف قد أحدث نهضة عظيمة على مستوى ترويج المفاهيم الأخلاقية الأصيلة وبعث روح المعنويات، إلاّ أنّ هذه الثورة لم تترجم حتّى الآن إلاّ بنسبة ضئيلة جداً.
* ما نحتاجه اليوم
إنّ إعادة صياغة التصوّر الأصيل للمدرسة السلوكية الإلهية في الكتب والأذهان تعتبر الخطوة الأهم في مجال أحداث نهضة روحية في مجتمعنا الحالي. وما دامت تلك الأفكار المتشتّتة هي المسيطرة فإنّ حاجزاً ضخماً وعقبة كؤوداً ستبقى مانعة من انتشار الأفكار الملهمة والأجواء المعنوية.
ولهذا، فإن كانت المقال هنا سيحاول بلورة هذا التصوّر بطريقة مبسّطة، مشيراً – حين يتطلّب الموقف – إلى أوجه الخلاف بين ما هو أصيل ودخيل.
* الأخلاق والسير والسلوك
إنّ المفهوم الشائع للأخلاق هو أنّها مجموعة من الملكات، وبعيداً عن البحث اللغوي للمصطلح، هل إنّ ما ورد في تعاليم الإسلام تحت عنوان تهذيب النفس وإصلاحها يتوجّه فقط إلى تمكين الإنسان من السيطرة على عاداته وحركاته، بحيث تؤدّي هذه السيطرة إلى تحصيل الفضائل النفسانية؟
إنّ الكمّ الهائل من الآيات والروايات الشريفة، والذي يشير إلى هذا الأمر، قد يعطي انطباعاً يصل إلى حدّ القناعة بأنّ ما تريده هذه التعاليم هو ما أشار إليه أرسطو في كتابه "الأخلاق" تحت عنوان القوى الأربع للنفس.
وبتعبير آخر يفهم أصحاب هذا التصوّر بأنّ هدف التعاليم الأخلاقية في الإسلام هو أن يرتفع الإنسان عن الرذائل كالغضب والحسد والعجب والرياء، ويتحلّى بالفضائل كالحلم والسخاء والكرم.
ولكنّنا إذا تعمّقنا في حقيقة هذه الملكات وما ورد بشأنها في الآيات والروايات نجد أنّها تأتي تحت عنوان أساسي هو: الذنب أو الطاعة، ولا شيء آخر.
فتلك الرذائل – وإن كنا قادرين على تعقلها بفطرتنا التي تميّز بين الحسن والقبيح – ولكنّها تمثّل حجباً وموانع بين العبد والمولى عزّ وجل.
فالمعيار الوحيد الذي يحكم جميع الملكات هو محول الطاعة لربّ العالمين.
وباختصار: إنّ جميع التعاليم الأخلاقية في عالم الإسلام تدور حول محور الارتباط بالله عزّ وجل. وإنّ أساس المدرسة الأخلاقية هو تحقيق الارتباط الوثيق للعبد بخالقه.
وإذا راجعنا طائفة أخرى من الآيات والروايات، نجد أنّ هناك أبعاداً أخرى لا تنحصر بالملكات وتحصيلها، بل تفوقها سعة وعظمة وبهاء. إنّها تدعو الإنسان إلى ترك حب النفس ورؤيتها والانطلاق إلى عوالم الملكوت ومشاهدة الجبروت والسفر والسياحة مع الملكوتيين والتحقّق بالأسماء الحسنى. كلّ هذا، لأنّه سير من عالم المادّة وعبور لعالم النفس للوصول إلى الله تعالى.
فهل للرياء معنى سوى أنّه طلب لغير الله تعالى. وقد ورد في الآيات الشريفة: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
وجاءت الروايات مفسّرة:
"إنّ أدنى الرياء شرك".
وقال الله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون﴾.
وقال عزّ وجل:
﴿التائبون العابدون السائحون.. ﴾.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله:
"لكلّ أمّة سياحة وسياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله".
ونحن نقرأ في الأدعية الشريفة:
إلهي قد جرت على نفسي بالنظر لها فلها الويل إن لم تغفر لها.. إلهي، واجعل همّتي في روح نجاح أسمائك ومحل قدسك".
إنّ الانطلاق نحو تهذيب النفس من خلال برنامج التخلية والتحلية يمثّل قمّة الاعتماد على النفس التي هي صنم الأصنام.
"إلهي لا تلكني إلى نفسي طرفة عينٍ أبداً، فإنّك إن تكلني إليها هلكت".
نحن نسأل جميع الذين اهتموا بتدريس المعارف الأخلاقية، هل تمكّنوا يوماً من تغيير فرد واحد من خلال الإشارة إلى مخاطر الغيبة أو حسنات السخاء؟
وهل يوجد سوى مؤثّر واحد في هذا الوجود، وهو الله جلّت عظمته.
فلماذا نبحث عمّن لا يملك لنا نفعاً ولا ضراً.
﴿وذروا الذين يلحدون بأسمائه سيصيبهم عذاب أليم﴾.