إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد

نظرية الارتقاء والانتخاب الطبيعي‏


عندما طرح العالم الطبيعي تشارلز دارون نظرية تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي، هلل لها الماديون ظناً منهم أنها تناقض الدين في تصوره عن بداية خلق الإنسان، على الرغم من كون دارون نفسه مؤمناً، بل متديناً وملتزماً بالشعائر الدينية. والواقع أن النظرية لا تتناقض مع الدين، بل يمكن الجمع بينهما، ومع ذلك فهناك ملاحظات عديدة حول النظرية لا بد من ذكرها.

وملخص هذه النظرية أنه: لما لم يكن هناك تناسب بين ما نعطيه البيئة الطبيعية من غذاء وبين ما يولد من أعداد هائلة من الكائنات العضوية. كان لا بد من تصارع على الغذاء. لأنه سبب الاستمرار. والرابح في هذا الصراع هو من يملك المزايا الجيدة والخاسر هو كل من لم يملك مزايا أو صفات تخوله الحياة والاستمرار في الحياة وبالتالي سيبقى الأصلح والأفضل. ونستطيع أن نطرح الرأي بطريقة أقوى فنقول: أن الموجودات الطبيعية - مقابل الغير مادية - مجبولة على حفظ وجودها واستمراره وهي فعالة بكل قواها وأفعالها من أجل البقاء والاستمرار. وحيث كانت المنازعة تقتضي بسط التأثير في الغير وكذلك التأثر المتقابل عندها ستكون الغلبة للأقوى والأكمل وجوداً. ونستنتج مما تقدم أن الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الأفراد أكملها وأمثلها للبقاء ويفنى سائر الأفراد وينقرض تدريجياً. فهناك قاعدتان هما: تنازع البقاء وانتخاب الطبيعة للأمثل.

وحيث كان الاجتماع متكئاً في وجوده على عالم الطبيعة بمعنى عدم انفصاله عنه جرت فيه أيضاً نظير تلك القوانين في تنازع البقاء وانتخاب الأمثل. فالاجتماع الكامل القائم على أساس الاتحاد الكامل المراعى فيه العدالة للفرد والجماعة أحق بالبقاء وغيره أحق بالزوال والانقراض والتاريخ يحدثنا ببقاء الأمم الحية المراقبة لوظائفها الاجتماعية وتكليفها الإلهية والمحافظة على سلوك صراطها الاجتماعي المستقيم، مقابل انقراض الأمم بتفرق القلوب وفشو النفاق وشيوع الظلم والفساد وإتراف الكبراء وانهدام بنيان الجد فيهم وإفشاء الرذائل بينهم، والاجتماع يحاكي في هذه الطبيعة كما تقدم. فالبحث في الآثار الأرضية يوصلنا إلى وجود أنواع منقرضة من الحيوانات مثل الحيوان المسمى البرونتوساروس (الديناصور) التي لم يبق من أنواعها إلا نماذج يسيرة كالتمساح والضفدع وما سبب فنائها إلا تنازع البقاء وانتخاب الطبيعة للأمثل ثم يأتي حكم الوراثة من أجل الحفاظ والاستمرار ورقاء النوع. والخلاصة هي ما كان منها صالحاً للبقاء بقي ثم توارث الوجود وما كان غير صالح للوجود لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد وانقرض.

هذا ملخص قول من حمل هذا الرأي، وقد أجاب بعض المتأخرين بنماذج كثيرة من أنواع ضعيفة حيوانية ونباتية تتوارث الضعف من جيل إلى جيل وكل هذه الأمثلة تقضي بعدم اطراد القاعدتين - تنازع البقاء وانتخاب الأمثل - وكان ردهم بفرضية أخرى هي تبعية المحيط. فالمحيط الموجود وهو مجموع العوامل الطبيعية تحت شرائط زمانية ومكانية خاصة يستدعي تبعية الموجود في بعض جهات وجوده له (أي للمحيط). ولذلك كانت لكل نوع من الأنواع التي تعيش في البر أو البحر أو في مختلف المناطق الأرضية، القطبية أو الاستوائية من الأعضاء والقوى ما يناسب محيطه وحياته، فمحيط الحياة و الذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته وننتزع من القانون تنازع البقاء وانتخاب الأمثل ويبقى تبعية الميحط، مثل ما للقاعدتين من استثناءات وقد فصلوها في مظانها، ولو كان تبعية المحيط تامةً في تأثيرها كان من الواجب أن لا يوجد نوع غير تابع لمحيطه ولا أن يتغير محيط في نفسه كما أن القاعدين لو كانتا تامتين في حكمهما وجب أن لا يبقى من الموجودات الضعيفة الوجود باقٍ ولا يجري حكم التوارث في الأصناف الردية. فالحق هو أن هذه النظريات على ما فيها من الصحة بالإجمال غير مطردة.

أما الرأي الفلسفي فيقول: أن أمر حدوث تغيرات سواء من حيث أصل الحوادث المادية ألأ أطراف تلك الحوادث يدور مدار قانون العلية والمعلولية فكل موجود مادي بما له من قوة فعالة لحفظ وجوده بوجه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه وهذا واضحٌ بعد التأمل. ولازم ذلك أن يكون كل موجود فعالاً لإبقاء وجوده وحياته وبناء عليه يصح أن يقال أن بين الموجودات تنازع بقاء أيضاً لازم التأثير العلي أن يتصرف الأشرف وجوداً في الأخس وجوداً بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه وعليه يمكن أن يقال أن هناك انتخاباً طبيعياً وتبعية محيط.
هنا يجب معرفة فكرة أساسية ومهمة هي أن التأثر والتأثير يكون في عوارض الشي‏ء ولواحقه. وأما نفس الذات بصيرورتها ذاتاً أخرى فلا، فكن لعدم قولهم بوجود الذات بل يبنون كلامهم على أن كل موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادة وعلى هذا يحكمون بتبدل الأنواع وتبعية المحيط أو بتأثير سائر العوامل الطبيعية ولا يبالون بقولهم بتبدل الذات.
 

ولقد عزز بعض المفسرين هذه النظرية بقوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ 39 الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ 41 (الحج 39 - 41) ففيها إشارة واضحة إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحق وأنه ينتهي ببقاء الأمثل وحفظ الأفضل. كذلك قوله تعالى في سورة الرعد، 17: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾ .
فكلامه سبحانه يفيد أن ميزان التنازع يقذف زبد الباطل الفار ويدفعه ويبقى ما ينفع الناس.

ويرد على هؤلاء المفسرين أن قاعدة تنازع البقاء وكذا الانتخاب الطبيعي حق بالإجمال وأن القرآن الكريم يعتني بهما فلا كلام فيهما لكن هذين الصنفين من الآيات غير مسوق لبيانهما فالصنف الأول لبيان الله غير مغلوب في إرادته وإن الحق هو الذي يرتضيه الله وإذا حمل الحق حاملٌ ما كان مغلوباً قط. وعلى ذلك يدل قوله تعالى - أولاً: بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير ثانياً: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. فالجملتان في مقام بيان أن المؤمنين منتصرون.. ولا مكان للتنازع وبقاء الأمثل والأفضل والأقوى. فإن الأمثل والأقوى عند الطبيعة هو الفرد القوي في تجهيزه الطبيعي دون القوي من حيث الحق. المؤمنون سيغلبون لأنهم ظلموا بسبب حملهم الحق والله سبحانه حق وينصر الحق في نفسه، بمعنى أن الباطل لا يقدر على أن يدحض حجة الحق إذا تقابلا وينصر حامل الحق إذا كان صادقاً في حمله ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ  فهم صادقون في حملهم الحق. كذلك الآية السابعة عشرة من سورة الرعد تؤيد ما ذكرناه من بقاء الحق وزهوق الباطل.

أما أنه ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ فهي تشير إلى حقيقة بها عمارة الأرض وبدونها خراب العمران وفساد الأرض ألا وهي غريزة الاستخدام التي جبل عليها الإنسان وتأديتها إلى التصالح في المنافع وهذا المعنى له صلة بقاعدتي تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي لكنه - مع ذلك - هو السبب القريب الذي يقوم عليه عمارة الأرض ومصونيتها عن الفساد فالآية المباركة تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الأرض لا على هاتين القاعدتين.

وخلاصة القول أن قاعدتي تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الوحدة فإن كلا المتنازعين يريد بنزاعه الآخر إفناءه والطبيعة بانتخابها تريد الأقوى والأمثل فالنتيجة الطبيعية والبديهية هي فساد الكثرة وتبدلها إلى واحد أمثل أما الآية الكريمة تتحدث عن الدفع الذي فيه عمران الأرض وصونها عن الفاسد، هو الدفع الذي يدعو إلى الاجتماع والاتحاد وهما يكونان بين الكثرة والجماعة، لا الدفع الذي يدعو إلى إبطال الاجتماع وإيجاد الوحدة فالقتال مثلاً سبب لعمارة الأرض وعدم فسادها من حيث أن يحيي به حقوق اجتماعية لقوم مستضعفين لا من حيث يشتت به الجمع ويمحى به الأثر.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع