الشيخ بلال حسين ناصر الدين
تخيّل أنَّك تقف على جُرفٍ ترابيّ وأنت تراقب أمواج البحر وهي تلتهم التراب من تحت قدميك، وأنت إزاء ما تراه بعينيك تغرق في الغفلة عن اتّخاذ قرار الانتقال إلى مكان آخر! هو التسويف، الذي يدفع الإنسان إلى تأجيل ما ينبغي اتّخاذ القرار الحاسم فيه، دون أيّ تردّد، وإلّا أوقع نفسه في ما لا ينبغي وما لا ينفع عنده الندم في أغلب الأحيان.
لقد أشار القرآن الكريم إلى التسويف في آيات مباركة عدّة، منها ما كان في موضع المؤاخذة على بني إسرائيل، الذين كانوا يعلمون ببعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لكنّهم جحدوا ولم يقرّوا بذلك حتّى أنكروا، قال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الشعراء: 197).
قد يكون التسويف في أمر فرديّ أو جماعيّ، وقد يكون في ما يرتبط بأمور الدنيا أو الآخرة.
فعلى الصعيد الفرديّ، قد يجد المرء نفسه قادراً على إنجاز أمر ما يرى فيه خيراً وصلاحاً، أكان في عمله أو مدارج علمه، فيتكاسل ولا يقدم على فعل ذلك مع توفّر الظروف المؤاتية، فهو بذلك يحرم نفسه من التقدّم خطوة، وإذا ما استمرّ على هذا الحال، فإنّه لا محالة سيجد نفسه متخلّفاً عمّا كان يجب الوصول إليه، خاصّة وأنّ فرصة تدارك ما مضى قد لا تكون متاحة مجدّداً، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا هممت بخير فبادر، فإنّك لا تدري ما يحدث»(1). وهذا أيضاً ينطبق على الأمور الشخصيّة الفرديّة، وعلى صعيد المجتمع إذا ما تكاسل أهله وأبناؤه عن وضع الحلول الجذريّة لمشكلاتهم، ولا يتقدّمون في ما يصلح أمرهم فيبقون بذلك ضمن دائرة الضعف على أصعدة شتّى. ولنا في التاريخ شواهد على أنّ أمماً وحضارات قد انهارات وتبدّدت بفعل التسويف وتأجيل ما يجب فعله، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون﴾ (الأنعام: 44).
وكما يكون التسويف في أمور الدنيا كذلك يكون على صعيد الآخرة ومتعلّقاتها، وهو أخطر ما يقع فيه المرء، كأن يؤجّل توبته بين يدي الله، أو يتكاسل عن برّ والديه أو أرحامه أو جيرانه، أو يمتنع عن التصدّق على المحتاجين، أو قضاء حوائج المؤمنين، وهو على كلّ ذلك قادر مستطيع، لكنه يتردّد في الإقدام ويبقى في دوّامة التردّد والانكفاء حتّى تفوت فرصة تداركه، ولا يستطيع التعويض عمّا مضى.
وممّا يعدّ من مصاديق التسويف في عصرنا الحاضر، أدوات التكنولوجيا، بخاصّة وسائل التواصل والتطبيقات المختلفة، التي توهم مستخدميها من خلال كثرة الإشعارات والإغراءات الرقميّة بالإنجازات الجبّارة! وهي في أغلبها سرابٌ لا نفع منها ولا جدوى، وتلهي أصحابها عن الاعتناء بما هو مفيد.
ما بين الفعل وتأجيل الفعل، لا بدّ من أن نضع نصب أعيننا إرشادات الباري تعالى، لندرك أنّه سبحانه يحبّ تعجيل الخير وكلّ ما فيه نفع للإنسان، وأنّ السعي هو الضامن لحركة الإنسان نحو الفعل ونبذ الانكفاء والترّدد، تصديقاً لقوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (النجم: 39).
أيّها الأحبّة، إنّ كلّ لحظة نُضيّعها في انتظار «الوقت المناسب»، تشبه بذرةً ميتةً تُدفن في تربة المستقبل، فإنّها لا محالة لن تُثمر إلّا الندم.
(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 142.