السيّد سامي خضرا
حثَّ الإسلام العظيم على البذل وفعل الخيرات ابتغاء مرضاة الله تعالى.
ومن جملة ما دعا إليه الإسلام، بذل المسكن أو المأوى المناسب لمن يحتاج إليه من المسلمين في الأحوال العادية، وشدَّد على ذلك في حالات الشدّة والحاجة والطوارئ.
قال الله جلَّ جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾... إلى أن يقول تبارك وتعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ (الأنفال: 27).
ثمّ يهدّد: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (الأنفال: 37).
ثم يجعل ذلك مقياساً صريحاً للإيمان الصادق الحقّ مقابل الإيمان الضعيف: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾(الأنفال: 74).
فمسألة بذل المسكن عند الحاجة، أو المأوى على الأقلّ، ليست بالمسألة الهامشية أو البسيطة والعابرة، بل هي تعبير عن الصدق وتحمّل المسؤولية عندما تُصاب الأمة بكوارث طبيعية كالفيضانات والزلازل، أو بالحروب، كما حصل في الحرب الأميركية الإسرائيلية على لبنان في تمّوز 2006م.
فالمعركة لا تتعلّق بشخص أو بجماعة أو بفئة، بل هي معركة الأمة: نصرها للجميع، وهزيمتها، لا سمح الله، هزيمةٌ تُصيب الجميع.
* من منع مؤمناً السُكْنى لا يسكن الجنان
عن محمد بن سنان، عن المفضل، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «أيمّا مؤمن كانت له دارٌ فاحتاج مؤمن إلى سُكناها فمنعه إياها قال الله عزَّ وجلَّ: ملائكتي بخُل عبدي على عبدي بسُكنى الدنيا، وعزّتي وجلالي لا يسكن جناني أبداً»(1).
فممّا لا شكّ فيه أنّ لدينا الكثير من الشقق المقفلة، إما لغياب أصحابها، وإما لعدم الحاجة الآنية إليها، فبَذْل هؤلاء هذه المنازل للمحتاجين والمنكوبين والمهاجرين في سبيل الله، يُعتبر من أبرز أمثلة العطاء والصدقة وفعل الخير والمساهمة في الجهاد.
* إيواء النساء والأطفال خاصّة
وأكّد الإسلام بالخصوص على إيواء النساء والأطفال... وذلك لاعتبارات شتّى، تراحمية وشرعية، لعلّها واضحة ولا تحتاج للتفصيل.
والإيواء الحقيقي لهؤلاء، إنما يكون في خدر ساتر، يحافظ على العِرض والصون، تماماً كبيوتهم التي فقدوها، أو ينبغي أن يكونوا فيها.
وإلى هذه الخصوصية الحسّاسة التي لا يمكن التهاون بها، أشار الله تعالى في قوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 33) فأمر النساء بالقرار في البيت، فهو أستر لهنّ وأحفظ لحياتهنّ.
وعليك أيضاً بملاحظة كيف أنه عزّ وجلّ أضاف البيوت إلى النساء في ثلاثة مواضع من كتابه -مع أنها تابعة لأولي أمرهن-، فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 43)، وقال: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ (الطلاق: 1)، وقال: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 33) ذلك كله لأهمية ودقة وحرمة صونهنّ. فكم من العظمة والشرف والعزّة وطهارة القلب وحسن التوفيق في صيانة حرمات المسلمين، وفي الحديث الشريف: «مَن كان له ثلاث بنات يؤويهنّ ويكفيهنّ ويرحمهنّ، فقد وجبت له الجنة البتّة»(2).
فانظر إلى روحية الإسلام في مثل هذه المواضع.
* الرأفة بالمدين
وفي سياق تأكيد الإسلام على حسن إيواء أهل الإيمان وصيانتهم وصيانة كرامتهم، نرى كيف أنه منع مطالبة الذي عليه الدَّين، ببيع ما لا بدّ له منه من مسكن مما لا يُستغنى عنه، إلا إذا زاد عن كفايته.
فعن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: «إنّ لي على رجل ديناً، وقد أراد أن يبيع داره فيعطيني، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: أعيذك بالله أن تُخرجه من ظلّ رأسه»(3).
وعن إبراهيم بن هاشم أن محمد بن أبي عمير رضي الله عنه كان رجلاً بزازاً (بائع ثياب)، فذهب مالُه وافتقر، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم، فباع داراً له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم، وحمل المال إلى بابه، فخرج إليه محمد بن أبي عمير، فقال: ما هذا؟
فقال: هذا مالك الذي لك عليّ.
قال: ورثتَه؟ قال: لا.
قال: وُهب لك؟ قال: لا.
فقال: هو من ثمن ضيعة بعتَها (مزرعة أو أرض أو عقار)؟ فقال: لا.
فقال: ما هو؟ فقال: بعت داري الَّتي أسكنها لأقضي ديني.
فقال محمد بن أبي عمير: حدثني ذريح المحاربي، عن أبي عبد الله عليه السلامقال: «لا يُخرَج الرجلُ من مسقط رأسه بالدَّين، ارفعْها فلا حاجة لي فيها، وإني لمحتاج في وقتي هذا إلى درهم، وما يدخل ملكي منها درهم»(4).
فتأمل في مسلك وغَيرة وخُلُق وورع سلفنا الصالح.
وعن النضر بن سويد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «لا تباع الدار ولا الجارية في الدَّين، وذلك أنه لا بدّ للرجل المسلم من ظلّ يسكنه وخادم يخدمه»(5).
* الهجرة النبوية والإيواء
وأفضل مثال على ما نحن فيه، الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة، وهي من أهم الأحداث في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين من أمة دعوة يُبلغون دعوة الله للناس دون أن يكون لهم كيان سياسي يحميهم، إلى دولة الدعوة التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام، وتكفلت بالدفاع عنهم وحمايتهم من أي اعتداء، ولن يكون ذلك إلّا بمجتمع متماسك يسند بعضه بعضاً، ويبذل بعضه لبعض، قال الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر: 8 - 10).
والهجرة كما الجهاد والدعوة والنصرة، سُنَّة من سُنن الله مع أنبيائه ورسله منذ آدم عليه السلام، وهي سُنَّة ماضية لا تتخلف لمن طَلب لدينه النصر، وأراد تبليغ دعوته، فسيُفتن هو ومن معه من المؤمنين... قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ (النساء: 79).
فيجب عند الهجرة في سبيل الله تعالى، إيواء المؤمنين وإسكانهم وإعانتهم ورعايتهم تقرباً إلى الله تعالى، وهو سبحانه القائل: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ (النساء: 100)، وهو تعالى القائل: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الأنفال: 26).
وفي حالة صحّة الإيمان عند أفراد الأمة تُعظَّم الهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة، والولاية... وكذلك ظهور الروح الإيمانية في النفوس، وتقديم المصلحة العامة للمسلمين والتعاون على الخير، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: 2).
(1) المحاسن، البرقيّ، ج1، ص101.
(2) مسند أحمد، ج3، ص303.
(3) الكافي، الكلينيّ، ج5، ص79.
(4) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج3، ص910.
(5) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج100، ص51.