شعار الشهيد محمّد علي فرّان
تحقيق: نانسي عمر
في تلك المرّة كانت قسائم المسابقة الشهريّة مختلفة عن سابقاتها، إذ ظهرت قسيمة تحمل اسم «الشهيد محمّد علي ناصر فرّان»، وتحتها توضيح أنّه كان من قرّاء المجلة. تابعنا الأمر ليتبيّن أنّ أحد أشقّاء الشهيد وضع اسمه؛ تخليداً لذكرى شقيقه الذي كان قارئاً نهماً، ومواظباً على حلّ المسابقة.
من هنا، كانت بداية رحلة التعرّف بالشهيد. قصدنا منزل ذويه تكريماً له ولعلاقته المميّزة بالمجلّة، حيث التقينا بوالديه وأحد أشقّائه وزوجته وعدد من أصدقائه، لنكتشف المزيد من أسرار ذلك الأستاذ المثقّف والقارئ النَّهم.
* باحث عن المعرفة
يتحدّث والد الشهيد الحاج ناصر بكلّ فخر عن محمّد علي الذي كان يملك حسّاً أدبيّاً عالياً، إذ كان ينتقي الكتب بدقّة فيختار منها الهادف والمفيد. وكان منذ صغره من المتفوّقين دراسيّاً، كما أنّه كان يشارك في كلّ مسابقات جمعيّة التعليم الدينيّ التي ترعرع في مدارسها، فيحصد المراتب الأولى دائماً.
«كنت أنظر إليه في باحة المدرسة يناقش المعلّمات والطلّاب، وقد شاركتهم النقاش يوماً، حيث كان إلمامه واضحاً بما يناقش فيه رغم صغر سنّه. وكلّما أعددت مسابقة للطلّاب، أجده يجمع الكتب وينشغل في البحث عن الإجابات»، يقول والده.
وممّا يذكره الحاج ناصر أنّ الشهيد كان مهتمّاً بمجلّة بقيّة الله، حيث يجمع في مكتبته أعداداً كبيرة منها، وكان يستعين بها لتحضير أسئلة المسابقات التي كان يعدّها. كما كان يشارك في مسابقاتها الدوريّة، وقد ربح في إحدى المرّات سلسلة كتب.
* ذكراه حاضرة
أمّا والدته، فتحكي كيف افتقدته خلال مناقشة كتاب للشهيد شمران حضّر له 15 شابّاً من أصدقائه، بينما كانت تنظر إلى صورته الثابتة في مكان انعقاد اللقاء تخليداً لذكراه، وهو الذي كان يسعى لمثل هذه اللقاءات بشكلٍ أسبوعيّ ويؤسّس لها، فيحضّر كلّ مستلزماتها ويشارك فيها رغم انشغالاته الكثيرة، فقد كان نشر ثقافة القراءة همّاً حمله على عاتقه خلال سنوات عمره القصير.
* شغف في الأدب والتعليم
بحسب زوجة الشهيد، فإنّه رغم تخصّصه في الفيزياء وتدريسه في الثانويّة، إلّا أنّ ميوله الأدبيّة كانت واضحة وطاغية، حتّى أنّه كان ينوي تحصيل شهادة الدكتوراه في الأدب العربيّ وليس في الفيزياء، وقد اختار لرسالته عنواناً عن علاقة الفيزياء بالمواد الأدبيّة. وعن علاقته بالتدريس، تحكي زوجته عن حبّه لطلّابه وعلاقته الأخويّة بهم وسعيه الدائم لأن يكون مؤثّراً فيهم، وكيف أنّ التدريس بالنسبة إليه كان شغفاً قبل أن يكون عملاً، وهو الذي رفض أن يتقاضى بدلاً ماليّاً لقاء عمله في مدارس المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وعندما قُدّم له الراتب على شكل هديّة تبرّع به، معتبراً أنّ التدريس إذا تحوّل من التطوّع إلى عمل مأجور، فسيفقد الشغف ولن يستمتع به كما يحبّ. حكت زوجته أيضاً كيف يلازم الكتاب يديه، في النهار وفي المساء، في المنزل وخارجه، تدخّل شقيقه بحماس مضيفاً: «كنّا في نزهة على النهر وما زلت أحتفظ له بصورة عندما أخذ كتابه وجلس فوق صخرة ليتمّه، قلت له متحدّياً: لن تتمكّن من التركيز، وما هي إلا دقائق حتى أرسل الخلاصات إلى مجموعة المطالعة على الهاتف».
* قصّة حبّ مع الكتب
للشهيد قصّة حبّ مع الكتب لا تنتهي سطورها، وله في جعبة كلّ صديق حكاية. يحكي صديقه حبيب غندور كيف أنّ سيّارة الشهيد كانت تعجّ بالكتب بعد زيارته لمعرض الكتاب الذي يُقام سنويّاً في بيروت. «كنت أنظر إلى المقعد الخلفيّ فأرى عدداً كبيراً من الكتب، حتّى أنّني قلت له يوماً: إنّك لن تحتاج إلى زيارة المعرض في العام المقبل، فأجابني: (هذه الكتب لا تحتاج إلى أكثر من شهرين لأنهي قراءتها كلّها)، وكان هذا حقيقيّاً، فقد كان يقرأ الكتب بنَهَم، لدرجة أنّه عندما استشهد وجدنا كتباً محترقة في المقعد الخلفيّ». ويضيف صديقه السيّد حسين ترحينيّ: «كان مؤثّراً في قراءته، وقد صار مرجعيّة نلجأ إليها عندما نبحث عن كتاب لموضوع معيّن. ولم يكن يكتفي بالقراءة، بل كان يلخّص الكتاب ويناقشه، حتّى أنّه أصبح قادراً على اختيار الكتاب المناسب لكلّ شخص بحسب فئته العمريّة أو ميوله أو طباعه، وهذه كانت إحدى ميزاته الفريدة».
* لا وقت بدون استثمار
يذكر زميله في التدريس حبيب غندور كيف كان الشهيد يعطي لكلّ رحلة تكريميّة للمدرّسين طابعاً خاصّاً، بحيث كان يقف في الباص ويبدأ بطرح أسئلة على زملائه المعلّمين، في جوّ من المرح والتنافس. وقد كانت المسابقات دائماً جاهزة في حقيبته، يُخرجها متى شاء. وكان يختار أسئلة شاملة وملمّة بمختلف الاختصاصات حتّى يتناقش المعلّمون حول إجاباتها.
* لقاءات دائمة
كان الشهيد يسعى لإقامة لقاءات دوريّة يجمع فيها مختلف الفئات بحضور شخصيّات معروفة، للتداول في موضوع سياسيّ أو دينيّ أو اجتماعيّ، أو لمناقشة كتاب معيّن. أخبرنا صديقه حبيب غندور أنّه كان يصرّ على الحضور ومتابعة أدقّ التفاصيل رغم انشغالاته وغيابه عن النبطيّة أحياناً، بل كان يبادر إلى طرح الأسئلة ليشجّع الآخرين على ذلك. أمّا شقيقه فأخبرنا كيف كان الشهيد يسعى لجمع الشباب في لقاءات ثقافيّة حتّى خلال حضوره في بيروت في الفترة الأخيرة: «اتّصل بي يوماً وطلب منّي أن أؤمّن له داخل بيروت مكاناً لائقاً بإقامة أنشطة ولقاءات دوريّة مع الشيخ طارق إدريس، وبالفعل، أمّنا المكان ودعونا الشباب، وصار عدد الحاضرين يزيد أسبوعيّاً».
* مبادرات مثمرة
كان الشهيد من مؤسّسي مبادرة «فسيلة» الشبابيّة التي تُعنى بأنشطة متخصّصة في نشر توصيات الإمام الخامنئيّ دام ظله وفكره. ويذكر صديقه السيّد حسين ترحيني أنّ الشهيد افتتح قبل أسبوع من شهادته اللقاء الحضوريّ الأوّل لمجموعة شباب من «فسيلة» لمناقشة أحد الكتب، فهو كان المرشد والناقد الصادق والبنّاء لهذه المبادرة والعامل الأساسيّ فيها، «وكان همّه أن ننتقل من القراءة العاديّة إلى الفعّالة، ومنها إلى المناقشة لتعمّ الفائدة على الجميع».
وكان الشهيد قد أسّس أيضاً مبادرة «حتّى مطلع الشمس»، التي أقيمت عبر الواتساب وجمعت عدداً كبيراً من الشباب خلال وقت قصير، تتمثّل في إجراء نقاش مع شخصيّة دينيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة بعد صلاة الصبح مباشرةً وحتّى الشروق، للاستفادة من هذا الوقت وتحصيل الأجر بدل تضييعه في النوم. كذلك يذكر شقيق الشهيد كيف بدأ بمبادرة أطلق عليها عنوان: «اقرأ وتصدّق»، حيث كان يجمع الكتب التي أنهى قراءتها ويقدّمها للآخرين كصدقة جارية لنشر ثقافة القراءة، أو يبيعها ويدفع ثمنها بدل أقساط دراسية للطلاب غير القادرين على دفع أقساطهم المدرسية.
يختم صديقه السيّد حسين ترحيني: «لا يزال الشهيد حاضراً بيننا حتّى بعد شهادته، فلا تقام ندوة أو لقاء في (فسيلة) إلّا وتكون صورته في الصفّ الأوّل كما كان دائماً».