مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

من القلب إلى كل القلوب: يسيرون على أجنحة الملائكة

سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)

لقد أكّد الإسلام على مسألة طلب العلم تأكيداً كبيراً، ونجد ذلك واضحاً وبيّناً في آيات كتاب الله المجيد، وفي الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأئمة المعصومين عليهم السلام، ومن خلال ما تناقله السلف الصالح والمدارس المختلفة، وذلك تارةً بصيغة الإلزام والوجوب، وتارةً من خلال التشويق والترغيب.

*المعرفة حاجة إنسانية
والأحاديث، في مسألة الوجوب، كثيرة وواضحة، منها: "طلب العلم فريضة"، وكلمة فريضة تقبل التفسير والتأويل المختلف. وفي أحاديث الترغيب نجد أنّ بعض الروايات تتحدث عن: "أنّ الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم". فهناك خصوصيات أعطيت لطالب العلم: من يسلك طريقاً يطلب فيه العلم ويموت في هذا الطريق، يحسب في عداد الشهداء.

فطلب العلم بالمفهوم الإسلامي، هو حاجة أخروية تتعلّق بمستقبل الإنسان في الآخرة. لأن الإنسان بدون علم وبدون معرفة لا يمكن أن يعرف نفسه، ولا يمكن أن يعرف ربه، ولا يمكن أن يعرف آخرته، وما هو قادم عليه. هذا العلم العقائدي، هذه الرؤية حول الكون والحياة والإنسان، هذه المعرفة هي حاجة ضرورية للإنسان الذي سيقدم على حياة لا مفر منها. إن لم يتسلّح بعلم ومعرفة تمكّنه من الإقبال على هذه الحياة كما تقتضيها هذه الحياة، وما يؤمن له موقعاً إيجابياً ومستقبلاً صالحاً وسليماً وسعيداً فلا يمكن أن يصل بالجهل والتيه والضياع والتشتت إلى مستقبل من هذا النوع. هذه المعرفة العقائدية، والرؤية التي يجب أن يحصل عليها الإنسان هي التي يمكن أن تساعده للسلوك إلى الله سبحانه وتعالى، وتساعده للسلوك في الطريق إلى الآخرة، ولمواجهة تلك الحياة الأبدية الآتية حتماً.

من جهة أخرى، الإنسان يحتاج إلى معرفة الطريق، كيف يتعاطى مع نفسه؟ كيف يتعاطى مع ربه؟ كيف يتعاطى مع ما يحيط به من قضايا الحياة؟ هذا أمر أيضاً يحتاج إلى العلم وإلى المعرفة. إنّ الله عزّ وجلّ لم يترك الإنسان دون أن يحدّد له الطريق الموصل إلى الأهداف الإلهيّة المرسومة، والمحدّدة والمنشودة.

*طلب العلم للآخرة
قضية العبادة، هي من الأمور الأساسية بالنسبة للإنسان، ولا يمكن أن تكون عبادة الإنسان صحيحة ومطلوبة لله عزّ وجلّ إن كانت مبنية على أساس الجهل. فلا يستطيع الواحد منا أن يعبد الله كما يريد هو، إنما كما يريد الله سبحانه وتعالى. إن الله عزّ وجلّ طلب منَّا مثلاً، أن نصلّي صلاة الصبح ركعتين. قد يدّعي أحد أن الله سبحانه وتعالى طلب منا ركعتين حتى لا يتعبنا، فيصليها خمس ركعات. لا يمكن أن تصحّ هذه الصلاة، وهذه ليست عبادة.

الأخذ بمبدأ العبادة، في تأدية العبادة لله عزّ وجلّ، أن يعبد الإنسان ربه بالحدود والضوابط والقوانين والأشكال والأساليب التي حددها الله سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان أن يعرف هذه الضوابط والحدود والأشكال، وإلّا سوف يكتشف بعد حين أنه لم يكن في موقع العبادة، ولا موقع العبودية لله سبحانه وتعالى، بل أحياناً يرتكب عملاً محرماً، وهو أنه يشرِّع بنفسه، ويبتدع أحكاماً وعبادات خاصة من عنده، لم يحددها الله سبحانه وتعالى لعباده. لذا هذا العلم هو واجب؛ لكي يتمكن الإنسان من أن يعبد الله سبحانه وتعالى حق عبادته. كذلك الأمر في السلوك العام أيضاً، وليس فقط في مسألة العبادة. الإنسان الذي يريد وجه الله، والذي يعمل لآخرته معني بأن يتعرف إلى أحكام الله سبحانه وتعالى في كل قضايا الحياة التي يواجهها. ويجب على الإنسان-كما هو (مذكور في) الفتاوى- أن يتعلم الأحكام الشرعية التي يُبتلى بها عادة في حياته. الإنسان الذي يعمل في حقل التجارة يجب عليه أن يعرف ما يحرم بيعه وما يحرم شراؤه، والذي يعمل في حقل الطب يمكن أن يواجه قضايا شرعية عديدة، يجب عليه أن يعرف الأحكام الشرعية المتعلّقة في هذا المجال. الإنسان معني أن يعرف الأحكام الشرعية حتى يعرف كيف يتعاطى مع هذه القضايا كلها، وليس فقط مسألة العبادة.

في الثقافة الإسلامية، وفي المفهوم الإسلامي يجب على الإنسان أن يبني حياته بأكملها على أساس الإرادة الإلهية والحكم الإلهي. وهذا يعني أن عليه أن يتعلّم هذه الأحكام الإلهية حتى يبني حياته العائلية والاجتماعية العامة على أساسها. إذاً كلنا نشترك في حقيقة واحدة، وهي أنَّ علينا أن نصوغ حياتنا وسلوكنا وممارساتنا على قاعدة الالتزام بالأحكام والتكاليف الإلهية.

والواضح في المفهوم الإسلامي والقرآني أنّ الجنة تعطى على أساس التقوى والإيمان والعمل الصالح. ولا يمكن أن يُحصّل التقوى إلّا من خلال العلم ومن خلال المعرفة، لأن التقوى تعني الابتعاد عن المعصية، ويجب أن يميز الإنسان حتى يبتعد عن المعصية. لذلك كان طلب العلم أيضاً عبادة وواجباً، فعلى أساسه تقوم العبادة، ويُسلك الصراط المستقيم إلى الله سبحانه وتعالى.

*طلب العلم للدنيا
من جهة أخرى، طلب العلم يكون لحاجة دنيوية، حاجةٍ إنسانية. ليست المسألة مسألة آخرة فقط. على مستوى الدنيا، الإسلام يريد أن ينظّم حياة الناس على قاعدة نُظُمٍ وقوانين واضحة. لا يمكن أن يستقيم مجتمع من خلال الفوضى، لا بد من نظام اجتماعي، اقتصادي وما شاكل. فلا بد من هذا العلم حتى تستطيع أن تبني مجتمعاً علمياً. وقد كان للإسلام دائماً شرف الدعوة لمجتمع علمي، ولحياة تقوم على أساس علمي. خلال معركة بدر الكبرى كان قد وقع بعض المشركين أسرى في يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل فداء إطلاق سراحهم، أن يُعلِّم كل واحد منهم عشرة من المسلمين، لأنّ الأميّة كانت في ذلك المجتمع مطبقة بالكامل. فالإسلام في هذا المجال طرح مسألة الواجب الكفائي الذي يسمّونه اليوم: العلم الإجباري. والواجب الكفائي معروف في المصطلحات الفقهية، وهو يعني الواجب الذي يتعلق بذمة المسلمين جميعاً، فإذا قام به من المسلمين من به أو بهم الكفاية تحقق الواجب وسقط التكليف. فالمجتمع الإسلامي أو المجتمع الإنساني مثلاً بحاجة إلى مجموعة من الفقهاء، وإلى مجموعة من العلماء والمبلِّغين، وإلى مجموعة من علماء الطبّ، وإلى مجموعة من المهندسين... وإلى آخره. ففي الإسلام يجب تحصيل هذا المستوى من التخصص، لذا كان العلم والمعرفة وجوباً كفائياً على المسلمين في أن يكون بينهم أطباء وفقهاء وعلماء، حتى يمكن بناء مجتمع إنساني متكامل، تتحقق فيه كل حاجات الإنسان لحياة عزيزة وكريمة وإنسانية. وإذا كان تحقيق الدفاع الواجب يتطلب من المسلمين أيضاً أن تتخصّص مجموعة من شبانهم في مجال الكيمياء، أو في مجال الفيزياء، مثلاً، أو في أي مجالات أخرى يجب عليهم أن يفعلوا ذلك، وإن تخلّفوا فهم آثمون.

*بناء المجتمع الإنساني
إذاً، العلم في هذا المجال أيضاً يأتي في إطار بناء المجتمع الإنساني، وفي إطار السعي لتحقيق الأهداف الإلهية المرسومة للحياة الدنيا، وللدور المطلوب من الإنسان في هذه الدنيا. اليوم الحرب على الأمة، وعلى الإسلام وعلى المسلمين لا تأخذ الشكل العسكري أو الشكل الأمني فقط، بل هناك أشكال عديدة لهذه الحروب. هناك مؤامرات تتعرض لها بلاد المسلمين على الصعيد الاقتصادي، وعلى الصعيد التربوي، وعلى الصعيد الاجتماعي، وعلى الصعيد السياسي. ويتورط في هذه الحرب الكثير من العملاء، والكثير من الجهلة والبسطاء. وقد يقع في حبائلها إنسان متدين وبسيط نتيجة جهله، ويتحول إلى أداة في المشروع المعادي للإسلام والمسلمين. المسلمون، في هذه الأيام، مدعوون إلى مزيد من الوعي ومن المعرفة ومن طلب العلم في كل المجالات وفي كل الاختصاصات لمواجهة كل المؤامرات، وكل التحديات القادمة.

العالم كله، كما كان يقول الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه)، متعطّش للإسلام المحمدي الأصيل. هو بحاجة إلى من يحمل هذا الإسلام في عقله فكراً واضحاً وصافياً وأصيلاً ونقياً، و(إلى) من يحمله في قلبه حباً وإخلاصاً وعشقاً واستعداداً للتضحية في سبيل الدعوة إليه، وتبليغه ونشره وإيصاله إلى كل العقول والقلوب والآذان، مهما كانت التضحيات كبيرة.

*في الإسلام العلم والتقوى
هناك ميزة خاصة تتعلق بمسألة تبليغ الإسلام والدعوة إليه. إن حملة هذا الفكر لا يكفي أن يكونوا مفكرين، ومثقفين، وأن يحصلوا على هذا العلم وعلى هذه المعرفة، في المجالات المختلفة. هناك خصوصيات لا بد أن يعرفها حملة الإسلام وهي أنهم يحملون الفكر الإلهي، والرسالة الإلهية. وحملة هذه المعرفة وهذا العلم يحتاجون إلى العزم والإرادة وإلى الإخلاص لهذا العلم، ولهذه المعرفة. وهم بحاجة إلى التقوى في العمل بهذا العلم حتى يكونوا دعاة لله سبحانه وتعالى، بخطابهم، وبأفعالهم، وبمصداقيتهم. نحن، اليوم، بحاجة إلى هؤلاء، والساحة كلها تحتاجهم.

*يتقدّم في ساحة الفكر والحوار
لسنا دعاة إلى الإسلام بالسيف، والإسلام كفكر لا يحتاج إلى سيف يدعو إليه. فقط يحتاج إلى سيف يدافع عنه في مقابل محاربة الإسلام بالسيف، أما عندما تصبح الساحة ساحة مفاهيم وحوار ثقافات؛ الإسلام يتقدم بكل قوة لأنه ليس فكر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان، وإنما هو دين الله وتعاليمه التي أنزلها على قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم. نحن نتمنى إن شاء الله أن نتمكن من توظيف كل الأجواء لمصلحة دعوة الناس إلى دين الخلاص، إلى الدين الذي يحقق لهم سعادتهم في الدنيا وفي الآخرة.

الشهداء أيها الإخوة عندما يسقطون، دمهم يصنع لنا أجواءً، وعلينا بإخلاصنا وبمعرفتنا وبعلمنا أن نوظف هذه الأجواء لمصلحة دعوة الناس إلى الإسلام. والذين يبقون على قيد الحياة، وفي مجتمعهم، هم معنيون من خلال العلم ومن خلال المعرفة ومن خلال حمل الفكر والهمّ والرسالة أن يستفيدوا من الأجواء؛ ليحوّلوا الالتفاف العاطفي والنفسي في مجتمعهم، هذا الحماس المؤقت، إلى انتماء، إلى وعي، وإلى اعتقاد لا ينتهي مع مضي الزمن كما هو الحال بالنسبة للحالات العاطفية والحماسية، أو التأثر النفسي وما شاكل. وعندما نضيع فرصاً من هذا النوع توفرها لنا دماء الشهداء، نكون في الحقيقة قد خسرنا خسارة فادحة على حساب المشروع الإسلامي والمشروع الإلهي الذي نتحمل نحن مسؤوليته أمام الله سبحانه وتعالى.

أضيف في: | عدد المشاهدات: