د. غسان طه
كانت شعيرة عاشوراء تقام في بعلبك وقراها، كما في قرى جبل عامل، بطريقة سرّيّة في العهد العثمانيّ، حيث كانت تُقرأ سرّاً في البيوت بسبب رقابة السلطة وندرة القرّاء في منطقة تخلو من الحسينيّات المخصّصة لإقامة هذه الشعيرة. نتعرّف في هذا المقال إلى ظروف هذا الإحياء وتطوّره.
* إحياء غير منظّم
شهدت طريقة إحياء المناسبة تغييرات مهمّة منذ الانتداب الفرنسيّ، حيث استمرّ الإحياء في المنازل والبيوت. وكان مزار السيّدة خولة عليها السلام قد بدأ يشهد حركة خلال الأيّام العشرة الأولى من المحرّم تتّخذ شكل إحياء غير منظّم للمجالس للدعاء والتبرّك ومواساة أهل البيت عليهم السلام.
أمّا الحضور فقد كان يقتصر على كبار السنّ، في حين أنّ فئة الشباب كانت غائبة بشكلٍ كبير، ذلك أنّ الواقع الدينيّ كان يعاني الكثير من التردّي نتيجة الافتقار إلى الكادر التبليغيّ والدينيّ الذي يكفل تحقيق هذه المهمّة.
* أشهر رجال الدين
عرفت منطقة بعلبك في أواخر العهد العثمانيّ عدداً من رجال الدين على غرار الشيخ حسين زغيب والشيخ خليل العميري، اللذين تلقّيا علومهما في النجف في العراق، ثمّ عادت لتقتصر دعوتهما على محيط ضيق. فالشيخ زغيب مارس التدريس الدينيّ في بلدته يونين القريبة من بعلبك(1).
أمّا في عهد الانتداب، ولحاجة المنطقة إلى علماء دين، فقد وفد الشيخ حبيب آل إبراهيم من منطقة جبل عامل إلى بعلبك، التي بدأت تشهد إحياءات عاشورائيّة على يديه، فبنى فيها مسجداً سمّي باسمه(2). وأنشأ الشيخ حبيب مدرسة «الهدى» في مدينَتي بعلبك واللبوة، ما استقطب عدداً من الأطفال لتلقِّي علوم الدين إلى جانب العلوم العصريّة. واستطاع بفضل حلقات التدريس التي كان يعقدها أن يكوّن نواة من الرجال المتوسّطي الأعمار الذين عُرفوا فيما بعد بأنّهم من تلامذته، إذ كان يُشار إليهم بالبنان كدلالة على ندرة المتديّنين المعروفين بإطلاقهم للّحى(3). وغداة تأسيس المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى، حلّ الشيخ سليمان يحفوفي (وهو من قرية نحلة في جوار بعلبك) مفتياً في مدينة بعلبك بعد أن عاد إليها من النجف في العراق، فيما عهد إلى الشيخ موسى شرارة -وهو من بنت جبيل بجبل عامل- القيام بهذه المهمّة ونشر المعرفة الدينيّة بين أبناء الهرمل، التي شهدت مزيداً من الإحياءات بفضله.
* الإمام الصدر وحركة التغيير
أَولى الإمام الصدر (أعاده الله ورفيقَيه) بعد مجيئه إلى لبنان في نهاية الخمسينيّات من القرن العشرين، اهتماماً كبيراً بالشعيرة الحسينيّة، وذلك لما تمثّله من أهميّة في وجدان الشيعة. وقد أراد الإمام الصدر تقديم عاشوراء من خلال فهم جديد، يرتكز على تعميق المأساة، وتحريك الوجدان والمشاعر، وتحويلها من مناسبة تقتصر على البكاء والحزن إلى تجسيد الواقع بكونها ثورة هدفت إلى إصلاح واقع الأمّة التي كانت تعيش حال الإحجام عن ممارسة دورها، جرّاء الخوف من ضغوط السلطات(4). ولأجل الانطلاق بهذه الشعيرة، كان على الكادر الموجود إلى جانب الإمام الصدر السعي والتخطيط للتوسّع بإحياء هذه المناسبة وإخراجها من محدوديّتها، من خلال:
1. الإحياء على نطاق واسع: لقد استُفيد من النادي الحسينيّ في بعلبك ومن مسجد الوقف في الهرمل، بالإضافة إلى عدد من المساجد المتناثرة في القرى لإحياء ذكرى عاشوراء. وحرصت حركة الإمام أيضاً على إحيائها في مكاتبها، إضافة إلى عدد من منازل القرى(5).
2. استقدام قرّاء عراقيّين: تلافياً للنقص الحاصل في العدد، اُستقدم قرّاء العزاء العراقيّون ممّن يجيدون قراءة السيرة الحسينيّة بنبرة حزينة وبإحكام متقن في ربط حلقات الحادثة، وتفسير خلفيّاتها ودوافعها على مدى الأيّام العشرة الأولى من شهر المحرّم. لقد أدّى هذا الإجراء إلى إخراج عاشوراء من محدوديّتها إلى مدى أوسع، إذ لم يكن بالمقدور قبل ذلك الحين استقدام هؤلاء القرّاء، فاقتصر إحياؤها على عدد من المساجد أو جرت الاستعاضة عن ذلك بسماع الأشرطة المسجّلة، وخصوصاً أشرطة القارئ العراقيّ الشهير الشيخ عبد الوهاب الكاشي، الذي اعتاده الناس عاماً بعد عام. ولكن رغم فرادته وتميّزه، لم يكن يخفى ما في ذلك من الافتقاد إلى التنوّع في المحاضرات والدروس، وفي تحليل السيرة وربطها بواقع الأحداث الحاضرة.
3. ارتقاء رجال الدين المنابر: أدّى التوسع في الإحياء الجماعيّ لهذه الشعيرة إلى توفير الفرصة للخطباء من رجال الدين بارتقاء المنابر عقب انتهاء القارئ من مهامه، لإلقاء المواعظ الأخلاقيّة وإعطاء الإرشادات الدينيّة التي يجب التحلّي بها كمقدّمة للسير على خطى الإمام الحسين عليه السلام. وهي غالباً ما كانت ممزوجة بالتعبئة السياسيّة أيضاً من خلال المفاهيم والأدبيّات والظواهر التي تحاكي الواقع السياسيّ في لبنان وحال الأمّة الإسلاميّة(6).
ولتأدية هذه المهمّة، استفاد الإمام الصدر من رجال الدين الذين انخرطوا في إطار المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى على غرار الشيخ سليمان اليحفوفي، والسيّد منير مرتضى، والشيخ خليل شقير، والمبلّغين العائدين حديثاً من النجف الأشرف. وقد أدّى هؤلاء دوراً مميّزاً، خصوصاً الذين تبوأوا مواقع قياديّة داخل الحركة، بحيث شرعوا في إعطاء الدروس في مدرسة بعلبك الثانويّة، وإقامة المحاضرات الدينيّة والسياسيّة للشبّان والنسوة المنخرطين في صفوف الحركة. وبفعل هذا النشاط، بدأت ملامح التديّن تبرز أكثر من خلال التوسّع في ارتياد المساجد وإطلاق الشبّان اللّحى، وارتداء الفتيات الحجاب مع سروال طويل وقميص يتدلّى حتّى أعلى القدمين.
ونتيجة لذلك، شهدت المجالس الحسينيّة بسيرتها ودلالاتها توسّعاً نوعيّاً لافتاً امتدّ إلى عموم القرى، وأصبحت الاحتفالات بموالد الأئمّة عليهم السلام ووفياتهم شائعة بين أبناء المنطقة بعدما لم تكن مألوفة من ذي قبل(7).
* توسّع الإحياء بعد عام 1982م
مع بروز حزب الله، استمرّت ممارسة إحياء هذه الشعيرة، لكنّها شهدت هذه المرّة تنامياً تدريجيّاً راح يمتدّ بالإضافة إلى المساجد التي استُحدثت في القرى، إلى الساحات والأماكن العامّة والمنازل. وكان لذلك نتائج عدّة أبرزها:
1. تعدّد المجالس: بدأت تقام مجالس عدّة خلال اليوم الواحد، ينتقل فيها الحضور من الحسينيّة أو المسجد، أو في منازل ذوي الشهداء والمؤمنين.
2. استلهام الدروس: قبل أن يتولّى القارئ تلاوة السيرة الحسينيّة، يعتلي الخطيب المنبر، ويتناول الحادثة بالتحليل لمواقف الاستشهاد والنصر والشجاعة، التي سجّلها الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه والسيّدة زينب عليها السلام، ويدعو إلى الاقتداء بهم.
3. الاستقطاب: غدا اليوم العاشر بمثابة يوم الفصل في إعلان الولاء. ففيه يظهر التمازج الدينيّ - السياسيّ لهذه الشعيرة بأوضح تجلّياته، فتغدو المشاهد ذات العناصر المتعدّدة متناسقةً، محمّلةً بالمعاني والدلالات.
بهذه المحطّات المختلفة وصل إحياء هذه الشعيرة إلى ما هو عليه اليوم.
(1) الشيخ حبيب آل إبراهيم: حياته ومؤلّفاته، المهاجر، ص 21.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، ص 22.
(4) الشهادة للإمام، الإمام موسى الصدر.
(5) مقابلة مع أكرم ياغي، أكاديميّ من بعلبك.
(6) مقابلات مع معمّرين.
(7) مقابلة مع أكرم ياغي، أكاديميّ من بعلبك.