مهى قبيسي
يتجلّى جوهر الدين في صياغة حياة الإنسان وتهذيبها، وتعليمه السلوك الصحيح في الدنيا ليفوز بالنجاة في الآخرة. كما يرتبط في جانب آخر بفهم الدنيا بوصفها مقدّمة للحياة الآخرة وليست أمراً هامشيّاً، أو ما يمكن وصفه بأنّها «مزرعة الآخرة».
لذلك، نجد أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلاممن بعده قدّموا في حياتهم نموذج «الحياة الطيّبة»، بكلّ تفاصيلها وأبعادها الفرديّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة.
في هذا المقال، نتتبّع بعض المواقف الواردة في سيرة أهل البيت عليهم السلامالعمليّة التي يتمحور جوهرها حول طاعة الله، ويتفرّع عنها: مصلحة الأمّة والناس، والنظام، والتعاون، وغيرها من القيم الإنسانيّة الراقية.
• أولاً: سلوك الأئمّة عليهم السلامفي حياة الفرد
تزخر الروايات الشريفة ببيان اهتمام الأئمّة عليهم السلام بالنظافة وحُسن المظهر، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1. مشاركة الطعام والبُعد المعنويّ: كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يأكل من أصناف الطعام ما أحلّ الله له، ويشارك أهله وخدمه إذا أكلوا. كما كان يجلس مع المسلمين على الأرض ليأكل ممّا يأكلون منه. وإذا حلّ بهم ضيف شاركه طعامه. وكان أحبّ الطعام إليه ما اجتمع عليه كثير من الأيدي، أي الطعام الذي يُؤكل جماعة.
ثمّة هنا تأمّل ذو فائدة؛ فللطعام نكهتان: نكهة ماديّة نتذوّقها بحواسنا، ونكهة معنويّة تنشرح بها نفوسنا.
وأطيب الطعام ما استلذّت به الروح ولو كان بسيطاً؛ فكلّما كثرت الأيدي حول المائدة بارك الله بالطعام كمّاً ونوعاً، وهذا ما لا تدركه إلّا النفوس الواعية التي تحرّرت من أسر حواسها الظاهريّة.
2. الاعتدال في ضيافة الضيف: يروى أنّ رجلاً دعا أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فأجابه الأمير: «أجبت على أن تضمن لي ثلاث خصال»، قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام : «أن لا تُدخِل عليّ شيئاً من خارج، ولا تدّخِر عنّي شيئاً في البيت، ولا تُجحِف بالعيال». قال: ذلك لك(1).
ما أجمل أن تقوم علاقاتنا الأخويّة على الشفافيّة؛ فلا ينتظر الضيفُ من مضيفه سوى المحبّة التي عبّر عنها بدعوته له، ولا يجد المُضيف حرجاً في الاكتفاء بتقديم ما يتوفّر من طعامٍ في منزله. وبهذا، سنّ الإمام عليه السلام أن يكون حقّ الضيف حدّاً وسطاً بين البخل والإسراف، بحيث لا يُظلم العيال بإهدار نفقتهم على غيرهم. وهذا لا يتعارض مع استحباب الاهتمام بالضيافة حين توفّر القدرة الماليّة.
3. أهميّة امتلاك حرفة: بعض احتياجات الإنسان لا تؤمّن إلّا عبر الصناعات، فقد قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : «جَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ عَوْناً، وَجَعَلَ أَسْبَابَ أَرْزَاقِهِمْ فِي ضُرُوبِ الأَعْمَالِ وَأَنْوَاعِ الصِّنَاعَاتِ، وَذَلِكَ أَدْوَمُ فِي الْبَقَاءِ وَأَصَحُّ فِي التَّدْبِير»(2).
وعنه عليه السلام أيضاً قال: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَضْرِبُ بِالْمَرِّ وَيَسْتَخْرِجُ الْأَرَضِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَمَصُّ النَّوَى بِفِيهِ وَيَغْرِسُهُ فَيَطْلُعُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَعْتَقَ أَلْفَ مَمْلُوكٍ مِنْ مَالِهِ وَكَدِّ يَدِهِ»(3).
• ثانياً: سلوك اجتماعيّ
نسلّط الضوء على السلوك الاجتماعيّ للأئمّة عليهم السلامودروسهم العمليّة في التعامل مع الناس والمال:
1. سنّة الإنفاق: يضع الله عزّ وجلّ قاعدةً لما هو حقيقيّ باقٍ مقابل الفاني، يقول تعالى: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (النحل: 96)، وقد رسخّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قُدِّمت له شاة فذبحها، واجتمع الفقراء والمستحقّون للحصول على نصيبهم من اللحم. وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقطِّع اللحم من الشاة التي ذبحها لنفسه ويوزِّعه عليهم، فقالت إحدى زوجاته: ما بقي منها إلّا كتفها، فصحّح لها صلى الله عليه وآله وسلم: «بقي كلّها غير كتفها»(4).
فالبقاء لما أُنفِق (كلّها)، والفناء لما لم يُنفق (الكتف). ندرك هذه الحقيقة عندما نتيقّن في تفاصيل معيشتنا كلّها أنّ الحياة الآخرة هي الباقية، والحياة الدنيا هي الفانية، ويثبت هذا اليقين أكثر فأكثر بالإنفاق. وكلّما كان الإنفاق من أغلى ما يملك المرء، ارتفعت درجة يقينه أكثر.
2. اختبار قناعة الفقير: بعد الحروب والأزمات، يكثر سؤال المحتاجين وتردّدهم على الناس لقضاء حوائجهم. ومع أنّ الإسلام شرّع الزكاة والصدقة لإعانة الفقراء على قضاء حاجاتهم، فقد وضع ضوابط تضمن أن يكون الخير في محلّه الصحيح. ونجد في سيرة الأئمّة عليهم السلامتطبيقاً لهذه الضابطة، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قَالَ: «وَكَانَ أبي عليه السلام رُبَّمَا اخْتَبَرَ السُّؤلَ لِيَعْلَمَ الْقَانِعَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا وَقَفَ بِهِ السَّائِلُ أَعْطَاهُ الرَّأْسَ، فَإِنْ قَبِلَهُ قَالَ: دَعْهُ، وَأَعْطَاهُ اللَّحْم، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ تَرَكَهُ وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئاً»(5).
حريّ بالمسلم أن يصون كرامته ويحفظ عزّة نفسه، ولا يُذيقَها الذلّ والهوان تحت أيّ ظرف. فالتسوّل، من وجهة نظر الإسلام، يعدّ ذلّاً واضحاً، ولذلك، نُهيَ المسلم بشدّة عن هذا السلوك، إذ ينبغي عليه أن يكفي نفسه بجهده وعرق جبينه، وأن لا يسأل الآخرين ويفتح لنفسه باب الفقر.
• ثالثاً: الحياة الأسريّة
كانت الحياة الأسريّة محور اهتمام الأئمّة عليهم السلام، إذ أَوْلَوا تنظيم البيت وأدوار أفراده وأعمالهم اليوميّة عناية خاصّة.
عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز»(6).
نلحظ أنّ السيّدة فاطمة عليها السلام بقيت تؤدّي الأعمال المنزليّة حتّى عندما كانت فضّة تعمل في خدمتها، على الرغم من قيامها بجميع أعمالها التبليغيّة ونشاطاتها السياسيّة والاجتماعيّة. حتّى بعد أن تملّكت فدكاً، بقيت تؤدّي جزءاً من أعمالها المنزليّة. فهي الأعلم بأنّ الزوجة تعدّ الأقدر على تدبير شؤون أفراد عائلتها، والمحافظة على سلامة أبدانهم وأرواحهم.
• رابعاً: التعامل مع الطبيعة والنعم
للطبيعة أيضاً نصيب من اهتمام الأئمّة عليهم السلام، نوضح هذا الجانب في ما يأتي:
1. المساحات الخضراء وعطور الزهور: إنّ للمساحات الخضراء والنباتات والزهور منظراً خاصّاً، فقد روى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن اهتمام النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالنباتات والزهور قائلاً: «حَبَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِالْوَرْدِ بِكِلْتَا يَدَيْهِ، فَلَمَّا أَدْنَيْتُهُ إِلَى أَنْفِي قَالَ: إِنَّهُ سَيِّدُ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ بَعْدَ الآس»(7).
كان صلى الله عليه وآله وسلم يميل كثيراً إلى عطر الزهور، ويحثّ على تعطير الأجواء ويقول: «لَوْ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى فِي التِّجَارَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ لَاتَّجَرُوا فِي الْبَزّ (الثياب) وَالْعِطر»(8). وذلك تعبيراً عن اهتمامه بالبيئة السليمة، والهواء النقيّ والمعطّر الذي يتحقّق في ظلّ الالتزام بقواعد المحافظة على البيئة.
2. خزن المياه والسدود: كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يعتني بمسألتين مهمّتين، هما: خزن المياه والمحافظة عليها. وكان يوصي دائماً بإيجاد حريم (منطقة محميّة) للموارد المائيّة، وينهى عن الاستعمال غير الصحيح للمياه وتلويثها. وحتّى في حالات الوفرة، كان ينهى عن الإسراف في المياه، سواء في الوضوء أو الغسل، وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «الْوُضُوءُ مُدّ [أقلّ من كيلوغرام واحد]، وَالْغُسْلُ صَاعٌ [نحو ثلاثة كيلو غرامات]، وَسَيَأْتِي أَقْوَامٌ بَعْدِي يَسْتَقِلُّونَ ذَلِكَ، فَأُولَئِكَ عَلَى خِلافِ سُنَّتِي، وَالثَّابِتُ عَلَى سُنَّتِي مَعِي فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ»(9).
3. الرفق بالمخلوقات: روى أحد أصحاب الإمام الحسن عليه السلام أنّه رآه يأكل وبين يديه كلب، كلّما أكل لقمة، طرح للكلب مثلها، فقال له: يا ابن رسول الله، ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟ قال عليه السلام : «دعه، إنّي لأستحيي من الله عزّ وجلّ أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثمّ لا أطعمه»(10).
الكلب في فقه المؤمن نجسٌ، فيجتنبه، لكنّ هذه المخلوقات تمثّل اختباراً لنبل النفس وتربيتها على الرحمة والرفق، ما يتجلّى في إطعام من لا حول له ولا قوّة، لأنّه لا يستطيع معاتبتك أو مطالبتك إذا لم تطعمه. وعندما تطعمه، لا تتوقّع منه شيئاً؛ فهنا تتجلّى حقيقة الرحمة، إذ يكون الإطعام لوجهه تعالى واستحياءً منه.
وبهذا، إنّ سلوك الأئمّة عليهم السلامفي حياتهم اليوميّة يقدّم لنا نموذجاً عمليّاً للفضائل والقيم التي ينبغي للفرد والمجتمع الاقتداء بها.
1. الخصال، الشيخ الصدوق، ص 189.
2. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 10، ص 171.
3. الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 74. والمَرّ (بفتح الراء) هو المسحاة، أي الأداة التي يُحرَث بها الأرض أو يُنقَل بها التراب (تشبه المعول أو المجرفة).
4. كنز العمال، المتّقي الهندي، ج 6، ص 381.
5. دعائم الاسلام، النعمان، ج 2، ص 185.
6. الكافي، مصدر سابق، ج 8، ص 165.
7. جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 16، ص 662.
8. كنز العمّال، مصدر سابق، ج 4، ص 31.
9. الوافي، الكاشاني، ج 6، ص 313.
10. بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 43، ص 352.