مع الإمام الخامنئي | لا تنبهروا بقوّة العدوّ* نور روح الله | لو اجتمع المسلمون في وجه الصهاينة* كيف تكون البيعة للإمام عند ظهـوره؟* أخلاقنا | كونوا مع الصادقين* الشهيد على طريق القدس عبّاس حسين ضاهر تسابيح جراح | إصابتان لن تكسرا إرادتي(1) على طريق القدس | «اقرأ وتصدّق» مشهد المعصومة عليها السلام قلبُ قـمّ النابض مجتمع | حقيبتي أثقل منّي صحة وحياة | لكي لا يرعبهم جدار الصوت

خُطب الإمام الحسين عليه السلام: وعــظٌ وتبيين

السيّد علي مرتضى الهبش


كانت الثورة الحسينية المحطّة الأبرز في سياق الصراع بين الحقّ والباطل، وهي النقطة المركزيّة التي استلهمت منها البشريّة ضرورة مواجهة الظالمين. والمواجهة هذه لم تقتصر فقط على حدّ السيوف واصطكاك الأسنّة، بل أخذت الخطب الحسينيّة دورها التبيينيّ في هذه الثورة الأمّ.

* روافد الخطاب الحسينيّ
بعد التأمّل في خطابات الإمام الحسين عليه السلام، نرى أنّ لها روافد وركائز بُنيت عليها، وهي:

1. القرآن الكريم: الإمام عليه السلام من أشهر الخطباء، ولديه قضيّة أمّة ومصير عقيدة، وهذا يتطلّب منه الدفاع المؤثّر في كلامه، والبيان المتين في خطابه، والقرآن يمتاز بخاصيّة النفوذ إلى المسامع والاستيلاء على مجامع القلوب، لذا، لجأ الإمام عليه السلام إلى كلمات الله فنثر ألفاظها وآياتها في خطبه.

2. حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ترك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثروةً هائلة من الأحاديث التي تحتوي على مضامين علميّة ووعظيّة وبلاغيّة عميقة وشاملة لمختلف الميادين الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. من هنا، استفاد الإمام عليه السلام من كلمات جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ليخاطب الآخرين ويلقي عليهم الحجج.

3. كلام العرب: كان لكلمات العرب نصيبٌ من الاقتباسات الحسينيّة، إذ كان الإمام عليه السلام ملمّاً بكلماتهم، ومطّلعاً على خصائصهم وأشعارهم ونثرهم، فأدخل الكثير منها في خطاباته، سواء على مستوى الاقتباس الشعريّ أو النثريّ، أو حتّى التشبيه والأمثلة التي كانوا قد استخدموها، منها قوله لأخته زينب عليها السلام: “لو ترك القطا(1) ليلاً لنام”(2).

* خطاب الإمام الحسين عليه السلام في مكّة
خطبَ الإمام الحسين عليه السلام في مكّة خطبتين، إحداهما أكبر من الأخرى، وقد جاء في الأولى كما ذكر المؤرّخون: لمّا عزم عليه السلام الرحيل إلى العراق قام خطيباً فقال: “الْحَمْدُ لِلَّهِ وَما شاءَ اللَّهُ‏ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ‏ وَسَلَّمَ، خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ»(3). وفيها إشارات لافتة، منها:

1. «خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ»؛ الموت يرتبط بالإنسان ارتباطاً وثيقاً لا يمكنه الانفلات منه والتجاوز عنه. وهو خطوة تكامليّة له في مسار حركته التكوينيّة نحو مصيره المحتوم، حيث عالم النعيم الذي لا نقص فيه ولا ظلم ولا عيب ولا خسارة.

2. «وَمَا أَوْلَهَنِي إِلَى‏ أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ»؛ ما أعظم شوقي لجدّي وأمّي وأبي وأخي وصالح من مضى من المؤمنين!

3. «خُيّر لي مصرع أنا لاقيه»؛ فهذا اختيار الله تعالى وهو ليس قهريّاً ولا جبريّاً، بل هو شرف وتكريم لمصرع اختير لي بعناية ولطف إلهيّين، رغم ما يشوبه من الصعوبات والمحن.

4. «كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطَّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ»‏؛ التنبّؤ بطريقة الشهادة ومكانها، يشير إلى قسوة الظروف، وصفات القتلة وحقيقتهم وبشاعة فعلهم وشراستهم من خلال تشبيههم بالعسلان(4).

5. «لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضَى اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ»؛ التسليم المطلق لإرادة الله تعالى، وعدم الحياد قيد أنملة عن طريقه تعالى. وما يرضي الله تعالى يُرضينا نحن، فنصبر على كلّ ما يقع في طريق الرضى لله والتسليم له تعالى، حتّى لو زُهقت نفوسنا وسُفكت دماؤنا.

6. «لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَحْمَتُهُ وهي مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ، وَيُنَجَّزُ لَهُمْ‏ وَعْدُهُ»؛ نحن امتداد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لحمنا لحمه، ودمنا دمه، ونهجنا نهجه، وكلّ ما نحن له وعليه هو ما يريده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان حاضراً في هذا الزمن لقام بما نقوم به من مواجهة الطغاة. وهنا يرد عليه السلام على كلّ من حاول حرف ثورته وتصويرها شخصيّة مستقلةً عن نهج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وروح الإسلام.

7. «مَنْ‏ كَانَ بَاذِلاً فِينَا مُهْجَتَهُ وَمُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اللَّهِ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ، فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ شَاءَ اللَّهُ»؛ إنّ الدخول في محفل الشهادة والتضحية الفريدة يحتاج إلى أفراد يمتازون عن غيرهم بمواصفات قلّ نظيرها، فالمعركة هذه بكلّ تفاصيلها لا سابقة لها ولا نظير، والمختارون لها هم مثلها. لذلك، من كانت لديه البصيرة أين يبذل مهجته ومع من يقدّمها، ويمتاز بجهوزيّة عالية وشوق عميق للقاء الله، فليرحل معنا.

أمّا خطابه الثاني في مكّة فكان قصيراً، حيث تعرّض الإمام عليه السلام فيه إلى بعض المفاهيم الأخلاقيّة، وثمّة احتمال أن يكون عقيب خطابه الأوّل وتتمّة أخلاقيّة له.

* خطاب الحسين عليه السلام في كربلاء
للإمام عليه السلام في كربلاء بضع خطب، الأولى عند وصوله إلى كربلاء، والثانية ليلة العاشر، والثالثة يوم العاشر، وقد يكون له غيرها ولكن تلك الثلاث أهمّها.

أوّلاً: الخطبة الأولى: حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «قد نزل بنا ما ترون من الأمر... وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(5).

ماذا يُستفاد من هذه الخطبة؟
1. يواصل الإمام الحسين عليه السلام امتحان عزائم أنصاره من خلال تذكيرهم بتنكّر الدنيا وإدبار معروفها قائلاً لهم: إنّنا في عالم لا يُعمل فيه بالحقّ، ولا يُتناهى فيه عن الباطل، فالمؤمن لا يرضى بعيشة ذليلة، ويفضّل الموت على حياة كهذه.

2. مع مشهد كهذا من ذلّة الحياة تحت سيف الظالمين، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه: وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، لأنّ الحياة الذليلة لا تليق بالمؤمن، فيختار لقاء الله بالشهادة ويحصل على الحياة السعيدة بدل الخنوع أمام سياط الظلمة.

ثانياً: الخطبة الثانية: رواها الطبري عن أبي مخنف عن الإمام السجّاد عليه السلام قال: «... فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: أُثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء... فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى... هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً»(6).

لقد أثنى الإمام الحسين عليه السلام على الله تعالى وحمده حمداً كثيراً، على ما أنعم عليهم من كرامة النبوّة، والقرآن، والدين، والهداية من ضلالة الشرك، ثمّ توجّه إلى أصحابه وأهل بيته وخاطبهم بتلك الكلمات مشفقاً عليهم. كلام فيه شهادة من خامس أصحاب الكساء أنّهم الأوفى والأفضل في زمنٍ ساد فيه الخذلان والتقهقر، وقد أذن لهم بالرحيل وأحلّ لهم ما له عليهم من حقّ الطاعة، وأرشدهم للاستفادة من غشية الليل وظلامه.

ثالثاً: الخطبة الثالثة: خطبها الإمام عليه السلام قبل بدْء القتال في اليوم العاشر. فقد روى الشيخ المفيد قدس سره في الإرشاد يقول: ثمّ دعا الحسين براحلته فركبها، ونادى بأعلى صوته: «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ... والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد...»(7).

 يُستفاد من هذا الخطاب نقاط عدّة:
1. «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا»؛ يأمرهم عليه السلام بالتروّي وعدم التسرّع والعجلة في قراراتهم، مع ما في ذلك من مصلحة تنفع الإنسان في دار الدنيا والآخرة. كلماته هذه وما بعدها تدلّ على القائد المشفق على قاتليه وذابحيه، وهذه الروحيّة لم تسجّل إلّا عند أهل بيت العصمة عليهم السلام، وذلك لأنّ الإمام عليه السلام يرى نفسه إماماً لكلّ البشريّة وحجّة على خلق الله.

2. «حتى أعظكم بما هو حقٌّ لكم عليَّ»؛ الموعظة حقّ للأمّة على الإمام العالم، فهو يقول لهم: إنّ لكم عليّ حقّ الموعظة والنصيحة، كما إنّ من حقّ الإمام على أمّته أن يطيعوه ويسمعوا له.

3. «وحتّى أعتذر عليكم من مقدمي عليكم»؛ لا يقصد هنا الإمام عليه السلام أنّه يعتذر، وإنّما يريد أن يكشف لهم عن مبرّرات قدومه عليهم.

4. «وإن لم تقبلوا عذري، ولم تصدّقوا قولي»، وقرأ عليه السلام آية من سورة نوح؛ أي يريد أن يقول: حركتي ورسالتي امتدادٌ لحركة الأنبياء عليهم السلام ورسالتهم، فالموقف الذي وقفه نوحٌ من قومه أنا أقفه منكم هنا.

5. «أيّها الناس، الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال»؛ يريد الإمام عليه السلام أن يصوّر للآخرين مدى صدق أهدافه: أنا ما خرجت لطلب الدنيا، فلا قيمة لها عندي، ثمّ يستشهد بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ (فاطر: 5)؛ ليبيّن لهم أنّ حركته قرآنيّة.

6. «وأراكم قد اجتمعتم على أمر أسخطتم الله فيه عليكم»؛ يبيّن لهم الإمام عليه السلام ازدواجيّة الشخصيّة عندهم: كيف أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ تزحفون إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم؟ لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله.

7. «ثمّ ارجعوا لأنفسكم فحاسبوها، اسألوا أنفسكم من أنا؟ أيحلّ لكم قتلي؟ ألست ابن بنت نبيّكم؟»؛ يدعوهم إلى مراجعة أنفسهم ومحاسبتها، ويذكّرهم بنسبه وبما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له ولأخيه، وكلّ هذا حتّى لا يقعوا في شرّ يستوجبون بسببه النار والعذاب.

8. «ويحكم! أتطلبونني بدم قتيلٍ لكم قتلته»؛ بيان المظلوميّة هنا أيضاً لأجلهم، لعلّ العاطفة تفعل شيئاً في دواخلهم وبواطنهم.

9. «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»؛ عبارة قالها عليه السلام بصوت مجلجل نابع من صميم القرآن والإسلام، ومتّصل بصيحات الأنبياء، لمّا طلبوا منه النزول على حكم يزيد.

10. «تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً! أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم»؛ بيّن لهم كيف انقلبوا على عهودهم ورسائلهم وما كتبوه له من حاجتهم إليه بسبب ظلم بني أميّة إيّاهم، لكنّهم خذلوه وخدعتهم الدنيا.

كانت هذه الخطب جزءاً من الثورة الحسينيّة الخالدة، وكما كان لها أثرٌ وبيانٌ في زمانها، فهي إلى الآن ترفدنا ببيانه عليه السلام، وتجيب نداء كلّ حسينيّ أراد سلوك طريق الحقّ والوقوف في وجه طواغيت الظلم.


(1) القطا: جمع قطاة وهو طائر في حجم الحمام صوته: قطاقطا.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 45، ص 2. مثل يضرب لمن حمل على مكروه من غير إرادته، وقيل غير ذلك. راجع: مجمع الأمثال، الميداني، ج 2، ص 123 .
(3) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 366-367.
(4) العسلان: جمع عاسل وهو الذئب.
(5) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 14، ص 217-218.
(6) تاريخ الطبري، الطبري، ج 4، ص 317.
(7) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 97-98.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع