الشيخ نبيل منير أمهز
ينفرد الصوم عن غيره من العبادات في أنّه يتشارك فيه كلّ من القلب والنفس والجسم: فصوم القلب قوامه بترك غير الله تعالى، والنفس صومها بترك الآثام، والجسم صومه بترك المفطرات ليتحقّق التعلّق بالله تعالى والانشغال فيه عن غيره، وهذا ما يؤدّي إلى تثبيت الإخلاص في نفس الإنسان المؤمن تجاه الله جلّ وعلا، وهو بعينه ما عَنَتْه وبيّنته السيّدة فاطمة البتول عليها السلام في خطبتها الفدَكية عندما قالت: "فرض الله... الصيام تثبيتاً للإخلاص"(1).
•الغاية من الصوم
يكشف كلام السيّدة الزهراء عليها السلام عن سِعته العلميّة في معرفتها التامّة بالغاية من الصوم الموصلة إلى شرف الضيافة والكرامة. فالحكمة الإلهيّة القائمة على الرحمة تبيّن أنّه ما من تشريع إلّا وله غاية؛ فالصّلاة فيها قيام الذكر والخضوع للتنزّه عن الكِبْر، والزكاة فيها النفقة والبذل والعطاء للتطهير من البخل والطمع والحرص ولتحصيل الزيادة في البركة والرزق، والحجّ يتقوّم بالهجرة والسفر والاجتماع علَماً للدين وجمعاً للمؤمنين وبيعة لصاحب الولاية، والعدل فيه توافق القلوب وطاعة الإمام وقوّة من الضعف. أمّا الغاية من الصيام، فهي ما أشارت إليه السيّدة فاطمة عليها السلام عندما قالت: "وجعل الصيام تثبيتاً للإخلاص"؛ أي تثبيت الإخلاص القلبيّ تجاه الله تعالى في المسلك العبوديّ والأخلاقيّ والعقديّ.
•طرق تثبيت الإخلاص
إنّ تثبيت الإخلاص عند الصائمين له طرق عدّة:
1. الاستعداد: يخاطب القرآن الكريم المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾؛ فالمُنادي هو الله تعالى، وليس ثمّة أعلى منه ليَصف المُنادَى باسم من أسمائه وهو (المؤمن)، فيكلّفه بكِلفة الصيام بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183)؛ وذلك لتعليل (لعلّكم) وهو توقّع الخير من محبوب مشفِق على عباده، للوصول إلى مقام التقوى (تتقون)، وهي مرتبة الحفظ والوقاية.
2. الاتّصاف بالتقوى: أي أن يتلبّس الصائم بالتقوى تلَبُسّاً قلبيّاً وعملاً منهجيّاً سلوكيّاً قوامه حفظ الأدب في محضر الله تعالى.
3. الإخلاص القلبيّ: هو مفتاح العبوديّة وتمامها وكمالها. وهذا هو مفاد الدلالة الظاهرة لكلام السيدة الزهراء عليها السلام في أنّ الله جعل التثبيت للإخلاص في أداء واجب الصوم التزاماً لأمره، بلا أيّ تردّد مبطل لهذه العبادة الخاصّة.
•ما هو الإخلاص؟
هو التصفية من الشوائب والتشذيب من الزوائد، فكلّ ما صفي تنقّى عن غيره، وهكذا إخلاص العباد، أي تخليص ما يقومون به لله من شائبة الغير والشركة. وبما أنّ الصيام كفّ وترك وتخلية، فالصائم يتخلّى عن كلّ ما يُغضب الله تعالى ويكفّ عنه ويتركه، فيكون بصومه منتسباً إلى شرف ضيافته؛ فالشهر شهر الله، والعبد عبد الله، والأمّة أمّة الله، والمقام والكرامة الإلهيّة الخاصّة عطاء منه سبحانه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البيّنة: 5)، والحديث القدسيّ: "الصوم لي وأنا أَجزي به"(2)، يعبّر عن خصوصيّة الصوم هذه.
من هنا، بما أنّ الصيام هو الانقطاع إلى الله تعالى في شهر رمضان، شهر الخير والبركة والرحمة، فلذلك، يتحقّق فيه ما لا يتحقّق في غيره من العبادات، فتُفتح عين القلب على رؤية بصيريّة خاصّة نافذة على مرتبة الإخلاص الذي يعني الخروج من افتقار الإنسان إلى عزّ الربوبيّة الإلهيّة.
•مشهديّة الإخلاص في الصيام
للإخلاص ظاهر وباطن: فالظاهر هو خلوّ البطن: "ما ملأ آدميّ وعاءً شرّاً من بطنه"(3)، وحفظ البصر والسمع واللسان من ميولاتها الشهوانيّة.
أمّا الباطن فيتمثّل في أنّ الحقّ سبحانه شرّف العبد بهذا التكليف بصيغة النداء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وأخلَصَه له عن غيره بندائه ودعائه للقيام في محضر الحقّ في هذا الشهر. وعليه، فالعبد الصائم بالإخلاص سيحبّ هذه العبادة، لأنَّ أعلاها وأرفعها وأمكنها شيمة ما استودعه الله في قلبه بحسب الحديث القدسيّ: "الإخلاص سرٌّ من أسراري استودعته قلبَ مَن أحببتُ من عبادي"(4)، أي أنّ القلب يتنوّر بما استودع الله تعالى فيه.
•مشهديّة الصيام في الإخلاص
للصوم ثلاث مراتب، هي:
1. صحّة البدن وزكاته: أي استواء الحال بألم الجوع بين الغنيّ والفقير، ليرحم الغنيّ الفقير، ويَرِقّ قلبه على الضعيف، ويرحم الجائع.
2. صوم الجوارح: فيُحفظ كلّ من اللسان والعين والسمع واليد والرجل والبطن والفرج عن كلّ الآثام التي هي من الطبيعة الحيوانيّة، ليرتقي الإنسان بحفظها إلى معاني الإنسانيّة ببلوغ الاستقامة والسيطرة بميزان العقل والشرع، فتسكن الأطراف وتخشع الأبصار وتذلّ الأنفس ويخضع القلب لأمر الله تعالى بالمراقبة والمحاسبة التي عمادها الاستغفار والتوبة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصَّائِمُ فِي عِبَادَةٍ وإِنْ كَانَ عَلَى فِرَاشِه مَا لَمْ يَغْتَبْ مُسْلِماً"(5). وقالت السيّدة فاطمة عليها السلام: "ما يصنع الصائمُ بصيامه إذا لم يَصُن لسانَه وسمعَه وبصرَه وجوارِحَهُ"(6).
3. صون القلب: أي صون الحقيقة الإنسانيّة عن الاشتغال بغير الله تعالى، وذلك بحفظها وخلوّها من جميع أسباب الشرّ، من العُجْب والكِبْر والحسد وما شابه، والانغماس في موارد الأنانيّة، فيرد قلب الصائم إلى حضرة الحقّ نقيّ القلب في محضره تعالى وينقطع إليه بمسلك "هب لي كمال الانقطاع إليك". وبذلك، تجتمع في الصائم معاني الصوم العامّة والخاصّة، فيتنوّر ظاهره وباطنه وتقوّم إنسانيّته، من خلال الكفّ عن المفطرات وحصول نقاء القلب وصفائه.
•ما به البداية منه الغاية
قال الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه في استقبال شهر رمضان في الصحيفة السجّاديّة: "وأَعِنَّا عَلَى صِيَامِه بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيكَ، واسْتِعْمَالِهَا فِيه بِمَا يُرْضِيكَ حَتَّى لَا نُصْغِيَ بِأَسْمَاعِنَا إِلَى لَغْوٍ، ولَا نُسْرِعَ بِأَبْصَارِنَا إِلَى لَهْوٍ، وحَتَّى لَا نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إِلَى مَحْظُورٍ، ولَا نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إِلَى مَحْجُورٍ، وحَتَّى لَا تَعِيَ بُطُونُنَا إِلَّا مَا أَحْلَلْتَ، ولَا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إِلَّا بِمَا مَثَّلْتَ، ولَا نَتَكَلَّفَ إِلَّا مَا يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ، ولَا نَتَعَاطَى إِلَّا الَّذِي يَقِي مِنْ عِقَابِكَ"(7).
إنّ للاستعانة بالله والتبرّي من كل حول وقوة إلّا بحوله وقوته تعالى فائدة الفوز بمقام نيل محبّته، وهذا من شرفِ منزلة الاختيار التي جعلها الله تعالى تحت إرادة العبد وقصده وحبّه لله تعالى وحبّ ما يحبّه له، كما ورد في مناجاة المحبّين: "اللهم إنّي أسألك حبَّك وحبَّ من يحبُّك، والعمل الذي يبلّغني حبّك"(8).
1.وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 1، ص 22.
2.من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 2، ص 75.
3.بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 1 ، ص 226.
4.المصدر نفسه، ج 67، ص 249.
5.الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 64.
6.مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 7، ص 366.
7.الصحيفة السجاديّة، الإمام زين العابدين عليه السلام، ص 188.
8.ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج 1، ص 503.