الشيخ بلال حسين ناصر الدين
كثيراً ما يطمح المرء إلى فعل أمور يراها خيراً لدينه أو لدنياه، أو يرغب في ترك أمور يراها سوءاً وفساداً لدينه أو لدنياه، إلّا أنّ شيئاً ما يحول دون إقدامه على فعل ما يحبّ أو إحجامه عمّا يكره، ويكمن ذلك في أغلب الأحيان في الإرادة والعزيمة، فالإرادة هي المحرّك الفعليّ الذي يدفعه بقوّة لفعل أيّ أمرٍ من أمور حياته أو يردعه عن فعل أمرٍ ولو اعتادت نفسه عليه، ولولاها لكان بمثابة جثّة هامدة لا حركة فيها ولا حياة.
يقولون إنّ في الإنسان قوّة مذهلة يستطيع من خلالها أن يفعل ما قد يراه هو أو الناس من حوله أمراً مستحيلاً، وليس هذا في الأمور المعنويّة فحسب بل في الأمور الماديّة أيضاً، فهو يستطيع من خلال قوّته التي أمدّه الله بها أن يحمل أثقالاً كبيرة أو أن يهدّ حائطاً بيديه، إلّا أنّ الوهم الذي يغلب عليه يُحجمه عن ذلك، فكيف استطاع الإمام عليّ عليه السلام حمل باب خيبر الذي يعجز عن حمله أربعون رجلاً؟ وكيف يُقدم المغضب شديد الغضب على فعل أشياء يعجب هو نفسه من فعلها، فربّما يضرب بيده لوح زجاج فيحطّمه وتسيل الدماء من يديه، ومع ذلك قد لا يشعر البتّة بالألم بل يبقى بعنفوانه وقوّته؟! وكيف يقتحم امرؤ أشياء خطيرة إذا ما كان ثمّة ضرورة تدفعه لفعلها فيحقّقها دون أن يجد في نفسه ضعفاً ووهناً؟! إذاً، الإنسان قادر، لكن ما يحول دون إقدامه أو إحجامه هو وهمُ الضعف.
وإنّنا نجد في القرآن الكريم ما يؤكّد أهميّة الإرادة والعزيمة حتّى وصف بها أعظم أنبيائه: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: 35)، وقال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ (ص: 45). فقد كانوا عليهم السلام أصحاب عزيمة وإرادة، ولذلك لم يتوانوا عن نشر رسالات الله مع كلّ الصعوبات التي وقفت في وجوههم. ولأجل ذلك، أرشدنا الله تعالى لأن نشحذ هممنا، ونقوّي إراداتنا ونعزم على ما فيه خير لديننا أو دنيانا، وأن لا يعترينا الخوف والفزع طالما أنّ في ذلك خيراً وصلاحاً. قال سبحانه: ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ (الأعراف: 171)، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن القويّ خير [...] من المؤمن الضعيف"(1). وليس المقصود بقوّة المؤمن هنا مجرّد القوّة في الأمور الماديّة التي يتسلّح بها، بل أيضاً قوّته المعنويّة، أي إرادته وعزيمته.
كم من إنسان لديه طاقات، إلّا أنّ الخوف وسوء الظنّ والهواجس التي لا مبرّر لها تجعل طاقاته كامنةً ومدفونة في باطنه، فيبقى في مكانه لا يتقدّم ولا يتطوّر بل يعيش البؤس والانحطاط والكسل والخمول، فقط لأنّ إرادته هامدة وضعيفة، في الوقت الذي يرى فيه غيره في حالة ارتقاء وتقدّم.
ولأجل أن يتخطّى ذلك كلّه، ينبغي له أوّلاً أن يتوكّل على الله سبحانه: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (آل عمران: 159)، وأن لا يخاف شيئاً طالما أنّه في رضى الله، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيه، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيه أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْه"(2).
بالإرادة والعزيمة وصل العارفون بالله والمبدعون والناجحون، وبضعف الإرادة أمات كثيرون ما أودعه الله فيهم من طاقات.
ومن رام العلا من غير كدّ
أضاع العمر في طلب المحال
ترومُ العزَّ ثمّ تنام ليلاً
يغوصُ البحرَ من طلب اللآلي
(1) كنز العمّال، الهندي، ج 1، ص 115.
(2) نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 501.