د. نبيلة أحمد حمزي
كانت تقضي نصف ساعةٍ يوميّاً متشوّقةً لتصل إلى مكان عملها في مدرسة كمعلّمة فنون، مدمنةً حبّ العطاء والتفكير ببعض الخطط لتفعيل عملها.
إسراء، ومنذ أوّل يومِ عملٍ لها في المدرسة، لَفَتَ نظرها شجرة زيتونٍ معمّرةٌ تطلّ بأغصانها من بداية الطريق على مشارف القدس، كانت تلك الشجرة بمثابة الشاحن اليوميّ لعزيمتها، فتحدّثها يوميّاً وتخبرها بأنّها ستمضي قدماً ما دامت تلك الزيتونة ثابتةً بجذورها في أرض القدس.
***
عندما بدأ يكبر محمّد ابنها الصغير، أصبح يرافقها في رحلتها اليوميّة إلى المدرسة، وعندما ظهرت أغصان الزيتونة على طريقهما، عرّفته بالصديقة التي حدّثته عنها. وذات يوم، جلست معه تحت ظلّها وبدأت تسرد له حكاية شجر الزيتون وأنّ جذوره القويّة تشبه جذور الشعب الفلسطينيّ الصامد.
مرّت الأيّام وإسراء ماضية في جهادها اليوميّ ذاك، حتّى بدأت الأمور تزداد سوءاً في كثير من الأيّام، بحيث بات مشوارها يستغرق وقتاً أطول لكثرة التوقّف عند حواجز التفتيش دون أسباب. ونتيجةً لهذه المسافة الطويلة وما يتخلّلها من مخاطر وبُعدِها عن ابنها محمّد، قررّت الانتقال إلى منزل قريبٍ من المدرسة.
في يوم تشرينيّ من عام 2015م، حيث استعدّ الناس لبدء موسم قطاف الزيتون، وقد حملت الزيتونة تلك حملاً كثيفاً يفوق حمولة السنوات الفائتة، انطلقت إسراء في رحلة نقل الأثاث اليوميّة بسيّارتها، مستبشرة بقرار انتقالها إلى المنزل الجديد. وفي أحد الأيّام، هاتفها مدير المدرسة لأمور طارئة، فوضعت على عجل بعض الأغراض في السيّارة، من بينها قارورة غاز لتوصلها إلى المنزل الجديد، فيما ابنها محمّد يلعب مع أولاد خالته سماح في الحديقة، ولم يرافقها حينها.
***
أنهت إسراء اجتماعها واتّجهت نحو المنزل لتوصل ما معها من أغراض، لكنّها فوجئت في طريق العودة بمجموعة من جنود الاحتلال يقومون بقطع أغصان الزيتونة، فيما تعمل جرّافة على نزعها من جذورها. وقفت مصدومة من هول تلك الوحشيّة القاتلة، بدأت بالبكاء، ثمّ واصلت طريقها.
أوقفها حاجز مفاجئ آخر، فتّش بدقّة ما في داخل السيّارة، فأخبرتهم أنّها تنتقل إلى منزل آخر، وبعد أن اجتازت الحاجز بأمتار قليلة تعطّلت سيّارتها، فطلبت المساعدة ممّن حوّلها، إلّا أنّ جنود الاحتلال لم يسمحوا لهم بذلك، عادت إلى السيّارة محاولةً الاتّصال بزوجها، ولكن قبل أن تنهي اتّصالها أطلق جنود الاحتلال، وعن سابق إصرار وخبث، رشقات مكثّفة من الرصاص أصابت قارورة الغاز، فانفجرت، وبدأت ألسنة النيران تلتهم إسراء، وجنود الاحتلال ينظرون إليها تحترق حتّى فقدت وعيها.
كانت تقضي نصف ساعةٍ يوميّاً متشوّقةً لتصل إلى مكان عملها في مدرسة كمعلّمة فنون
وبعد نصف ساعة، أخمد الجنود الحريق، لكنّهم أشعلوا آلاماً في حياة إسراء التي لم تعد كما كانت، أصبحت كتلة لحم متلاصقة بعضها ببعض؛ أصبحت يدين بلا أصابع، ووجهاً بلا ملامح، وجسماً بلا جلد، وحنجرة بلا صوت، وحروقاً بليغة اخترقت عظمها ونخرت أعماق روحها!
أُسرت إسراء بتهمة نيّتها القيام بـ«عمل انتحاريّ»، ونقَلها جنود الاحتلال إلى أقرب مستشفى، وأجرى لها الأطبّاء العمليّات الضروريّة، لكنّ جلّ تفكيرها عند ابنها محمّد الذي سرعان ما سيفتقدها ويسأل عنها!
***
عاد محمّد إلى المنزل متوقعّاً عودة أمّه ومعها هديّته المعهودة من الحلوى، لكنّه انتظر طويلاً حتّى غلبه النعاس، فغفا على كرسيّ الانتظار.
فكّرت سماح طوال الليل عمّا ستقوله له، وأخذت تمشي في حديقة المنزل تفكّر ما الذي حلّ بأختها إسراء؟ ولمَ تأخّرت؟ في تلك الأثناء، شغّلت ابنتها سارة التلفاز، فسمع محمّد مراسلاً يذكر اسم أمّه ويصفها ببطلة مقدسيّة تحدّت النار لتحيا منتصرةً رغماً عن قاتلها، وتخلّل الخبر مشاهد لإسراء مضمّدة بضمادات غليظة. في تلك الأثناء، كانت سماح في الحديقة، وعندما دخلت، وجدت محمّداً يخبّئ رأسه بين ذراعيه على الطاولة، ثمّ رفعه سائلاً إيّاها: «أمّي اسمها إسراء؟»، قالت له: «نعم»، فأردف بسؤالٍ آخر: «هذا يعني أنّ أمّي هي التي رأيتها مضمّدة بضماد أبيض؟»، فانهالت بالبكاء ثمّ حضنته وهي تقول له: «نعم، إنّها أمّك، البطلة القويّة التي ستتعافى قريباً!».
***
بعد عامٍ من الاعتقال، سمحت قوّات الاحتلال لمحمّد وسماح بزيارة إسراء في السجن. وحتّى يحين موعد ذاك اللقاء، راحت سماح تحضّر الطفل نفسيّاً، وتريه صورة لأمّه المضمّدة، ذابلة الملامح.
غفا محمّد في تلك الليلة في حضن سماح وصورة أمّه في حضنه، وهي تسرد له قصصاً جميلة عن المقاومة والأطفال المقاومين الذين يساندون أمّهاتهم. وكان اللقاء المرير، ظهرت سماح وبينها وبين محمد حاجز زجاجي، فصرخ محمّد، ولم يصدّق أنّها أمّه! وبدأ يصيح: «أين أمّي؟»، فلوّحت له إسراء بلعبة صغيرة قد حاكتها له في أيّام السجن القاسية.
هدأ محمّد قليلاً، التقط سمّاعة الهاتف، وبدأ يسمع صوتها الذي لم يميّزه، فطلبت إسراء أن يدخلوه إليها لتحضنه. وبعد مشادّةٍ كلاميّة مع جنود العدوّ، سُمح له بالدخول. تقدّم محمّد بخطوات بطيئة، وعندما نظر في عينيها رأى بريق الشوق الذي يعرفه في عينيّ أمّه، تقدّم أكثر وهي تمدّ ذراعيها لتحضنه، ثمّ تراجع قليلاً، إلّا أنّ ذاك البريق الذي ما انفكّ يلمع في عينيها جذبه إليها، فصرخ: «أمّي، اشتقت إليكِ»، وحضنها بقوّة، فاطمأنّ قلبه وسكنت روحه، وراح يسألها عمّا جرى معها، فأجابته بأسلوبها الطفوليّ الذي يعرفه.
قبل أن يغادر، طلبت إسراء منه أن يغرس زيتونة مكان تلك التي اقتلعها جنود العدوّ الإسرائيليّ. وفي اليوم التالي، استأذنت سماح من صاحب الكرم، فوافق الرجل وأصرّ على تسمية الشجرة باسم «إسراء».
***
مضت ثماني سنوات وإسراء ممنوعة من العلاج، تتألّم كل يوم، يزورها محمّد كلّما سُمح له؛ ليخبرها عن أحوال زيتونتها، ويهرّب لها زجاجةً صغيرة جدّاً من زيتها، وهي تنتظر بفارغ الصبر.
أمّا محمّد، فقد كان وجه أمّه أجمل وجه للمرأة الفلسطينيّة، وقد حمل قضيّتها صارخاً من صميم الألم: «أعيدوا لي وجه أمّي!». وها هي أمنيته تحقّقت أخيراً، وتحررّت إسراء بموجب عمليّة تبادل الأسرى التي فرضتها سواعد أبطال المقاومة الفلسطينيّة.
أمّا أنتِ يا إسراء، فهنيئاً لك حرّيّتك وعودتك إلى ولدك وعائلتك بعد كلّ سنيّ المعاناة والصمود، وقد بات بإمكانك الآن الاطمئنان شخصيّاً إلى حال شجرتك التي لطالما مدّتك بالقوّة والعنفوان.
* عن معاناة الأسيرة الفلسطينيّة إسراء جعابيص.