مع الإمام الخامنئي | لا تنبهروا بقوّة العدوّ* نور روح الله | لو اجتمع المسلمون في وجه الصهاينة* كيف تكون البيعة للإمام عند ظهـوره؟* أخلاقنا | كونوا مع الصادقين* الشهيد على طريق القدس عبّاس حسين ضاهر تسابيح جراح | إصابتان لن تكسرا إرادتي(1) على طريق القدس | «اقرأ وتصدّق» مشهد المعصومة عليها السلام قلبُ قـمّ النابض مجتمع | حقيبتي أثقل منّي صحة وحياة | لكي لا يرعبهم جدار الصوت

يوم الشهيد| أحياءٌ بمآثرهم


تقرير: كوثر حيدر
 

"الروح هي اللي بتقاتل فينا"، عبارةٌ صاغها عماد المقاومة، بعينٍ ثاقبة تراقب أطياف تلك الروح التي تجمع خيرة الشبّان، أولئك الّذين عبروا فوق الموت، وتعبّؤوا. كلّ الّذين عبروا هذا الطريق، كانوا يبغون وجه الله، سيماهم العطاء والبذل والتضحية، شغفهم حبّ الخير، تألقت أرواحهم فلم يشعروا بتعبٍ أو نصب، تساموا فوق ملهيات الدنيا، عمّروها رغم زهدهم بها، وتسامت أرواحهم علوّاً حتى كانت الدماء غاية عطائهم في سبيل الله.
بهم يا سادة، بدأت المقاومة الإسلاميّة، وبأرواح أمثالهم تبقى وتُحفظ.

* من ماله الخاص
كان عليّ صفي الدين(1) ثالث الاستشهاديّين، يتقاضى أجرته اليوميّة من مهنة البلاط، فيقسّم المبلغ قبل أن يغسل يديه: قسمٌ لأمّه وقسمٌ آخر يدّخره بغية شراء سيارة، إلى أن اشترى واحدة ذات لون أخضر متواضعة وجميلة. سأله رفاقه مرّة لمَ لا يتريّث قليلاً حتّى يدّخر مزيداً من المال ويشتري واحدة أحدث، فضحك قائلاً: «إنّها تفي بغرضها»!. لم يدرك أحدٌ منهم أيّ غرض يقصد. وكعادته توجه عليّ إلى محلّ لصيانة السيّارات، حيث كان ينتظره رفيقه. وبسرعة، أغلقا بابه الجرّار، وراحا يُفخّخان تلك السيّارة الخضراء الجميلة. كان علي قد اشترى العبوات التي فخّخ بها سيارته من ماله الخاصّ أيضاً. وظلّ لفترةٍ يترصّد حركة الدوريّات الإسرائيليّة في بلدة «دير قانون النهر»، إلى أن حان موعد الالتحام في 13 نيسان. خرج عليّ على عجالةٍ من أمره، وتوجّه بسيّارته إلى حيث الطريق الذي تمرّ عليه آليّات الدوريّة، وقف على جانب الطريق، وما إن أطلّت، حتّى بدأ يردّد الشهادتَين، ثمّ انطلق نحوها، وأمام عينيه صورة الشيخ راغب حرب وهو يصدح بصوته: «دم الشهيد إذا سقط، فبيد الله يسقط، وإذا سقط بيد الله، فإنّه ينمو».

* "ضاعت فرصة العمر"
عندما اجتاح الإسرائيليّون بيروت، ووصلوا إلى الأوزاعي، وقف شارون على تلّة في المنطقة، فحمل خمسة مجاهدين سلاحهم وركضوا تُجاه التلّة لمواجهته وجنوده. كان الشهيد سمير مطوط (جواد)(2) من بينهم، قيل لهم حينها: اعلموا أنّكم في حال المواجهة لن تعودوا أحياء، فأجابوا جميعاً: ومن قال إنّنا نريد العودة؟! ولكن صودف أنّ الدوريّة التي جاء فيها شارون قد عادت إلى داخل المطار عند وصول مجموعة الشهيد مطوط إلى هناك، فصار يبكي حرقةً، فقد ضاعت فرصة العمر التي كان ينتظرها.

* "ابدأ بصديقي أوّلاً"
أمّا عن إيثاره، فتروي زينب شقيقة الشهيد جواد: "تعرّض الشهيد جواد في إحدى المهام العسكريّة إلى إصابات بليغة وحروق شديدة من الدرجة الثالثة في كلّ أنحاء جسده، منها وجهه وعيناه، وكان يتألّم ألماً شديداً نتيجة ذلك. أُدخل إلى المستشفى مع صديق له كان قد تعرّض للإصابة نفسها، ووُضعا جنباً إلى جنب في الغرفة نفسها.

كان شقيقه الدكتور كمال يشرف على علاجهما، وعندما أراد أن يفتح عيني جواد ليتفحّص ما إذا كان قد فقد بصره أم لا، تفاجأ بردّة فعله، إذ قال له: "أخي، ابدأ بصديقي أوّلاً"، وقد أصرّ جواد على ذلك حتّى امتثل الدكتور لطلبه.

* أرقام وحصى
غصّت الخيمة بالمعتقلين ليلاً. الكلّ مشغول بنفسه، وحده تركّزت عيناه على هويّة الوافدين والمغادرين من المدنيّين اللبنانيّين، يتفرّس في وجوههم وسيّاراتهم، فقد كان الشهيد رضا حريري(3) على يقين أنّ هؤلاء يتعاملون مع المحتلّ الإسرائيليّ، يوصلون إليه ما يحتاجه من معلومات عن المقاومة. لمعت في خاطره فكرة نيّرة، وهي أن يجمع الحصى المنتشرة في أرض معتقل مدرسة الشجرة، المقرّ الجديد للحاكم العسكريّ الإسرائيليّ في صور، ثم يحفر عليها أرقام سيّارات الوافدين - أي العملاء-، ففعل ذلك حتّى كشف معظمهم لقيادة المقاومة فيما بعد. أنهى مهمّته، ثمّ تفرّغ لعمل آخر ضدّ المحتلّ، فراح يرسم مداخل المعتقل ومساحاته. وبعد أسبوع، كان رضا على موعد مع الحريّة، وكانت الضاحية الجنوبيّة وجهته الأولى، حيث ذهب مسرعاً للقاء أفراد من قيادة المقاومة، فأخبرهم بما رأى ولاحظ ورصد، وأكّد لهم أن لا تحصينات قويّة حول معتقل مدرسة الشجرة في صور، وأنّها هدف سهل لعمليّة استشهاديّة قد تحصد مئات الجنود الصهاينة والعملاء واللحديّين. وهذا ما حصل، لتكون العمليّة الاستشهاديّة الثانية من نوعها بعد عمليّة الاستشهاديّ أحمد قصير في مقرّ الحاكم العسكريّ السابق في صور.

* ساقي رفاقه العطاشى
كانت المجموعة الكامنة في محيط موقع سجد بانتظار أمر القيادة لبدء الهجوم. نفد الماء لدى الجميع وشعروا بالعطش، باستثناء الشهيد حسين بهيج ناصر (أبو أدهم)(4) الذي كان لديه نصف قنينة ماء فراح يجول بين أفراد المجموعة ويسقيهم الواحد تلو الآخر بمقدار غطاء القنينة، فيما بقي هو عطشانَ بلا ماء. وخلال الهجوم على الموقع، أصيب أبو أدهم بإصابات بليغة أدّت إلى استشهاده، وقد قُطعت كفّه اليمنى التي كان يسقي بها الماء.

* كمينٌ في عمق أمانهم
تبلّغت مجموعة من الإخوة الاستشهاديّين أمراً بتنفيذ مهمّة شديدة الدقّة وهم: محمود حجعلي، وفادي البطش، وحسين مهنا، وهاني طه، بعد استطلاع المنطقة في طقس مثلج، وتصوير مكان الهدف، وتحديد التوقيت والتجهيزات المرتبطة بالعمليّة كافّة.

فجر يوم الأحد، الحادي عشر من كانون الأوّل، توضّأ الإخوة، وجهّزوا عتادهم العسكريّ، وحمل كلّ منهم في جعبته مطرتين: إحداهما للماء والثانية كانت عبوة مصنّعة. انطلقوا من مشغرة وقد سلكوا قرى عدّة إلى أن وصلوا إلى المقبرة الفرنسيّة في مرجعيون.

انتشر المجاهدون الأربعة خلف حائط المقبرة، وكمنوا للهدف ساعات عدّة حتّى وصلت آليّة من نوع "ويلس"، وسيّارة جيب عسكريّة كانتا تمرّان على طريق مرجعيون - الخيام في عمق الشريط المحتلّ باتّجاه مركز قيادة جيش الاحتلال في ثكنة مرجعيون. لدى وصولهما إلى نقطة المكمن، تواصل محمود (قائد العمليّة) مع الإخوة على الجهاز قائلاً: "سنبدأ... سامحوني". أطلق المجاهدون النيران، ثمّ رموا صاروخ "لاو" أصاب إحدى الآليّات.

استشهد محمود قائد المجموعة، فقرّر المقاومون الثلاثة الصمود حتّى انتهاء المعركة التي استمرّت ثلاث ساعات ونصف الساعة، استعان فيها العدوّ بسلاحه الجويّ والمدفعيّ. بعد ذلك، استشهد هاني، فتابع حسين وفادي تصدّيهما للقوّة المعادية، وبمجرّد أن رآهما أحد العملاء في دبّين، نفّذ العدوّ طوقاً حول منطقة العمليّة فاستشهد حسين، وبقي فادي وحيداً في مرمى نيران طائراتهم وآلياتهم. كمن جنود العدوّ له خلف الجدران طالبين منه أن يسلّم نفسه، فأوهمهم بأنّه سيستسلم، ولكن ما إن اقتربوا منه حتّى فاجأهم بنيرانه وأصاب عدداً منهم. تكرّرت المحاولة نفسها مجدّداً، إلّا أنّ دبّابة أصابته فاستشهد.

يومها سطّر هؤلاء الأبطال ملحمة بطوليّة(5) في عمق منطقة أمان العدوّ، وهذا ما جعل الجنرال عميرام ليفين (قائد المنطقة الشماليّة لجيش الاحتلال الإسرائيلي سابقاً) يعترف بعد العمليّة: "تنظیم حزب الله جعلنا ندفع في تلك العمليّة ثمناً باهظاً".

* جنود الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
كان الشهيد عمّار حسين حمّود(6) يرى أنّ الفتيان المنتسبين إلى كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هم جنود الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف والممهّدون له، وكلّ فرد منهم هو مشروع مجاهد أو شهيد. ورغم علمه باقتراب موعد العمليّة الاستشهاديّة، وقبل أسبوع من شهادته، استمرّ بالتردّد إلى مركز الكشّافة في دوامه المعتاد، وراح يجول على البيوت برزنامة الكشّافة لعام 2000م حتّى يبيعها، علماً أنّه كان يستطيع إرسال أيّ عنصر ليقوم بتلك المهمّة.

* "سنخدمكم بأشفار عيوننا"
منذ طفولته، تميّز الشهيد أحمد ربيع نبيه الحاج (نوح)(7) بسعيه لخدمة الناس وحبّ الخير لهم، واعتاد أن يخبّئ مصروفه ويتصدّق به سرّاً. ومع اقتراب فصل الدراسة، كان يولي اهتماماً كبيراً لمعرض القرطاسيّة "سنخدمكم بأشفار عيوننا"، فيجمع التبرّعات ويدفع جزءاً من ماله الخاصّ لدعم المعرض وتأمين القرطاسيّة بسعر مدعوم بغية مساعدة الأهالي المستضعفين.

* "من غير اللائق أن تتّسخ ملابسكم"
كان الشهيد أحمد (نوح) مستعدّاً لخدمة كلّ الناس حتّى الذين لا يعرفهم. ذات مساء، وبينما كان عائداً من قرية كفرملكي في جنوب لبنان تُجاه بيته في الجيّة برفقة زوجته وأولاده، وجد سيّارة معطلة على جانب الطريق، يستقلها شباب يظهر من ملابسهم الأنيقة أنّهم كانوا في طريقهم لحضور حفل زفاف، فبادر لإصلاح سيّارتهم بدلاً عنهم، قائلاً: "أنتم مدعوون إلى زفاف ومن غير اللائق أن تتّسخ ملابسكم".

* "بدك تدفع ألفين"
تروي شقيقة الشهيد أحمد نوح: "كنّا في أجواء زيارة الأربعين والكلّ يتهيّأ لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، وكان أخي أبو علي خير معين في ذلك، فقد كان يفرّغ نفسه في تلك المناسبة من كلّ عام لخدمة الزوّار. كنت قد ذهبت معه لإتمام معاملة جواز سفري في الأمن العام، وبينما كنّا متّجهين إلى المكان، اتّصل به أحد الإخوة المجاهدين طالباً منه المساعدة في تيسير أمر سفره الذي كان "شبه مستحيل"، فأجابه الحاج بأنّه سيبذل أقصى جهده لمساعدته، ثمّ قال له: "استغث بالسيّدة الزهراء عليها السلام وقل: يا علي مدد، مع اليقين الكامل في الاستجابة".

لقد كان لديه يقين عجيب بأنّ الأذكار مثل "يا علي مدد" والصلاة على محمّد وآل محمّد هي الحلّ لكلّ المشكلات. ففي طريق عودتنا، وبعد إنهاء استكمال الإجراءات المطلوبة، اتّصل أخي الشهيد بذاك الشخص وقال له: "أعدّ حقيبتك، فالحسين ناداك". كان الأمر أشبه بالحلم بالنسبة إلى الأخ الذي لم يصدّق ما سمعه في البداية، وعندما سأل أخي عن التكلفة أجابه: "بدك تدفع ألفين". استغرب الأمر قائلاً: "لكنّني لا أملك هذا المبلغ". تبسّم أخي وأضاف: "نصيبك ألفا صلاة على محمّد وآل محمّد".

اللافت في شهداء التّعبئة ومجاهديها هو العزيمة، فهم لا يبغون مقابلاً سوى السّير نحو الله. فها قد أسدل المساء خيط الرّحيل الأخير. كلّ الأبطال أذعنوا أنّ القلب نال غاية المُنى: خير الدّنيا، ونعيم الآخرة، وحَسُن أولئك رفيقاً.


1- استشهد في عملية استشهاديّة في دير قانون النهر، بتاريخ: 13-4-1984م.
2- استشهد في عملية اقتحام موقع علي الطاهر النوعية، بتاريخ: 6-2-1987م.
3- استشهد خلال اقتحام موقع الحقبان، بتاريخ: 11-9-1986م.
4- استشهد في سُجد، بتاريخ: 12-5-1997م.
5- استشهدوا بتاريخ: 11-1-1994م.
6- كان منفذ آخر العمليّات الاستشهاديّة، بتاريخ: 30-12-1999م، وقد وافق تاريخ عمليته النوعيّة ليلة القدر الكبرى.
7- استشهد في معارك تدمر، بتاريخ: 19-1-2017م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع