الشيخ محمّد زراقط
العدل من حيث هو صفة لله تعالى، من المبادئ العقائديّة الأساسيّة، وهي ما يُعبّر عنها في علم العقيدة الإسلاميّة بأصول الدين. وعندما نتحدّث عن العدل بمعناه الواسع، يكون كلامنا عن مجالات ثلاث على الأقلّ يتحقّق فيها العدل الإلهيّ، وهي: العدل في عالم التكوين؛ والمراد من العدل هنا التوازن والاستواء الحاكم على ما خلق الله سبحانه: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ (الأعلى: 2)، والعدل في الجزاء والعقاب والثواب: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء: 47)، والعدل في مقام التشريع وهو المقصود من كلامنا، إذ ما يهمّنا في هذه المقالة الموجزة هو بيان المراد من العدل، وإثبات عدالة التشريعات الإلهيّة، والختام ببعض التطبيقات في مجال فقه المرأة والأسرة.
* مفهوم العدل
عُرّف العدل في كتب اللغة بأنّه: "... لفظ يقتضي معنى المساواة..."(1). ولكن أيّ مساواة هي التي تكون عدلاً؟ فلو استأجرنا شخصين لإنجاز عملين مختلفين في الجهد والقيمة، هل من العدل أن نسوّي بينهما في الأجر؟ ربّما دفعاً لهذا الاعتراض يكمل الراغب الأصفهاني ويبيّن أنّ المراد من المساواة هو المساواة بين الجزاء والعمل، فيقول: "فإنّ العدل هو المساواة في المكافأة، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرٌّ..."(2). وسوف يتّضح أنّ هذه الالتفاتة مهمّة في النتيجة التي سوف ننتهي إليها في النقاش اللاحق.
وأمّا في علم الكلام الإسلاميّ، فقد عُرِّف العدل بتعريفات متعدّدة، رُبِط في بعضها بينه وبين الثواب والعقاب، فقيل: "والعدل هو أن يثيب على الحسنة ويعاقب على السيّئة"(3)، وفي تعريف آخر رُبِط بينه وبين التكليف: "عدم فعل القبيح وعدم الإخلال بالواجب وعدم التكليف بما لا مصلحة فيه"(4).
* العدل التشريعيّ والدليل عليه
انطلاقاً من التعريفات المتقدّمة للعدل بما هو صفة من صفات الله تعالى، نلاحظ أنّه عندما يُنظر إلى هذه الصفة في ميدان التشريع، يمكن تناولها من محاور عدّة تساعد على وضوح الصورة وجلائها:
1. عدم التكليف بما لا يُطاق: أحد معاني العدل في التشريع أنّ الله تعالى لا يكلّف عباده أمراً لا يقدرون على امتثاله والقيام به. وهذا المعنى من العدل كشف عنه القرآن الكريم، إذ يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ (الطلاق: 7)، ويقول سبحانه في آية أخرى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 286).
2. عدم التكليف دون المصلحة: ومن معاني العدل في ميدان التشريع، أنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي عدم التكليف بما لا مصلحة فيه، ومن هنا استقرّ رأي علماء الشيعة في علم الكلام والفقه وأصوله، على أنّ جميع التكاليف الإلهيّة خاضعة لهذا المبدأ، وعلى أنّه تعالى لا يمكن أن يشرِّع حكماً إلّا لمصلحة يحسن بالإنسان اكتسابها، أو مفسدة ينبغي اجتنابها. وهذا ما يُعبر عنه بتعليل الأحكام بالعلل والأهداف. وهو نقطة خلاف بين علماء المسلمين، إذ مال علماء الإماميّة قاطبة إلى: "تبعيّة الأحكام الشرعيّة للصفات المحسِّنة والمقبِّحة، فما لم يكن الفعل مورداً للحسن لا يصير متعلّقاً للطلب"(5). وقد يُستدلّ على هذه القاعدة من القرآن بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ﴾ (الأعراف: 157). فقد وصف الله تعالى في هذه الآية ما يؤمر به بأنّه معروف وما يُنهى عنه بأنّه منكر، وما هو حلال بالطيّب وما هو حرامٌ بالخبيث، ويُفهم من هذه الأوصاف أنّها كذلك قبل أن يأمر بها، ولم تصبح طيّبة أو خبيثة بعد أن أمر بها. ورد عن الإمام عليٍّ عليه السلام في وصيّته لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "فَإِنَّهُ [أي الله تعالی] لَمْ يَأْمُرْكَ إِلَّا بِحَسَنٍ وَلَمْ يَنْهَكَ إِلَّا عَنْ قَبِيحٍ"(6).
3. عدم المحاباة في التكليف: إنّ أحد معاني العدل في التشريع، وهو المقصود الأساس في هذه المقالة، هو العدل بمعنى عدم التمييز بين الناس في التكليف على أساس الجنس والعرق والموقع الاجتماعيّ وغيرها من الاعتبارات. وهذا المعنى من العدل هو الحالة المنتشرة في التشريعات الإلهيّة. وفي ضوء هذا، نلاحظ أنّ الخطاب القرآنيّ موجّه إلى الناس في عبارة ﴿يا أيّها الناس﴾، أو إلى الذين آمنوا في عبارة ﴿يا أيّها الذين آمنوا﴾، وما يشبه هاتين العبارتين من الخطابات التشريعيّة العامّة التي لا تمييز فيها ولا محاباة. وفي ما يرتبط بما نحن فيه من التمييز بين الرجال والنساء، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الخطابات العامّة تشمل الرجال والنساء بحسب قواعد اللغة العربيّة، ولكن مع إمكان التعبير بصيغة واحدة ومخاطبة النساء والرجال بكلام واحدٍ، نجد أنّ القرآن نصّ في عدد من الآيات على دخول النساء في بعض التكاليف والأحكام. هذا وإنّ حالة التمييز بين الناس في التكليف هي الاستثناء المخالف للقاعدة، وهذا ما يثير بعض التساؤلات عند الناس.
* التمييز العادل
إذاً، على الرغم من التسوية في التكاليف والأحكام بين جميع الناس، فإنّنا نلاحظ بعض حالات التمييز المنطقيّ والعادل بين الناس لاعتبارات خاصّة، وليس هذا مخالفٌ للعدل؛ بل هو من تجلّيات العدل والرحمة الإلهيّة. فقد ميّز الله بين الأغنياء والفقراء: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ (الطلاق: 7)، وبين المريض والسليم: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (البقرة: 185)، وبين صاحب الإعاقة الجسديّة وغيره: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾ (النور: 61)، وبين الرجل والمرأة في بعض التكاليف المتعلّقة بالأسرة، كما في حالة الحضانة والطلاق وغيرهما من موارد قليلة ومعدودة في التشريع الإسلاميّ.
* اختلاف الأحكام بين المرأة والرجل: عدالة
يمكن فهم هذا التمييز وتفهّمه بين فئتي الرجال والنساء في بعض الأحكام الخاصّة، سواء كان ذلك في الأسرة أم في غيرها من المجالات، بالتأمّل في عدد من النقاط نعرضها في ما يأتي:
1. استحالة المحاباة في التشريع: المبدأ الأوّل الذي ينبغي الالتفات إليه في مناقشة مثل هذه الأمور، هو استحالة نسبة الجور في التشريع الإلهيّ لمصلحة طرف على طرف آخر، على أساس الجنس أو غيره من الفوارق التي تظهر في الساحة الاجتماعيّة، وقد نصّ الله تعالى على عدم الإضرار بأيّ من طرفي الأسرة خاصّة من جهة الأطفال، وذلك في قوله عزّ وجلّ: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ (البقرة: 233). ومع هذه اللفتة التي يمكن عدّها قاعدة من قواعد التشريع، كيف يمكن أن يُظنّ بالله تعالى ترجيحه مصلحة الرجل على المرأة أو العكس؟!
2. المصالح العامّة: تقدّم أنّ الأحكام الشرعيّة كلّها تابعةٌ للمصالح والمفاسد، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ المجتمع الإنسانيّ هو ساحةٌ لتضارب المصالح وتعارضها، وعندما تتضارب مصلحة شخصٍ مع مصلحة المجتمع تُقدَّم المصلحة العامّة على المصلحة الشخصيّة، والأمر نفسه ينطبق على تضارب مصلحة الرجال والنساء، هذا إذا افترضنا أنّ في بعض حالات التمييز ترجيحاً لمصلحة أحد الطرفين على الآخر.
3. تخفيف لا محاباة: بعض حالات الاختلاف بين الرجل والمرأة هو تخفيف على المرأة وليس ترجيحاً لمصلحة الرجل على مصلحتها. ومن أمثلة ذلك قضيّة الحضانة، فإعطاء الحقّ في الحضانة للرجل هو تكليفٌ له برعاية أولاده وتحميله مسؤوليّة ذلك، وليس امتيازاً لمصلحته.
4. ملاحظة النظام التشريعيّ ككلّ: لا يمكن الحكم على مفردة من مفردات التشريع إلّا بملاحظة النظام التشريعيّ كلّه. وعندما نلاحظ النظام التشريعيّ الإسلاميّ عموماً، وفي مجال الأسرة على وجه التحديد، يمكن أن نفهم بعض حالات الاختلاف بين الرجل والمرأة في التشريعات الأسريّة، ففي النظام الذي يلزم الرجل بالإنفاق والمهر ويجعل مسؤوليّة الأسرة من الناحية الاقتصاديّة على عاتقه، يمكن فهم إلزامه بالحضانة، وزيادة نصيبه من الإرث، وجعل الطلاق بيده، وغيرها من الأمور.
5. التعبّد والطاعة: لا تعني تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد أنّ الإنسان قادرٌ على اكتشاف جميع المصالح والمفاسد التي دعت إلى تشريع بعض الأحكام. وعندما يكون المشرِّع هو الله، لا بدّ من التعامل مع تشريعاته وأحكامه من منطلق حسن الظنّ والثقة والإيمان العميق بأنّ الخير في ما يختاره تعالى، حتّى لو لم نستطع إدراك علل بعض التشريعات بصورة واضحة.
6. ضيق الخيارات: عندما تتضارب المصالح في بعض الحالات وتستحيل التسوية، لا بدّ من اتخاذ قرار لمصلحة أحد الطرفين، مع ملاحظة ما أمكن من المصالح. مثلاً: إذا نظرنا في حالتَي الحضانة والطلاق، فمن يعترض على إعطاء الحقّ في الحضانة للرجل يطرح الحلّ بإعطائه للمرأة! والحلّ الذي يمكن أن يُطرح لمشكلة جعل الطلاق بيد الرجل هو جعله بيد المرأة! أو جعله بيدهما فيُفتح بابان لقطع العلاقة بين الزوجين، بدل الباب الواحد!
ويجدر ذكر أنّ أحد أسباب الخلل في فهم بعض التمايز بين الناس في الأحكام، هو أنّ بعضهم يظنّ أنّ العدل هو التسوية بين الناس في الأحكام، ولكنّ هذا غير دقيق، فقد يقتضي العدل تمييز بعضهم عن بعض لتحقيق العدالة بينهم. وقد مرّ ما له صلة بهذه النقطة في مطلع المقالة.
* التجربة الغربيّة نموذج فاشل
تجدر الإشارة في الختام إلى أنّ النقاش في مثل هذا الأمر بدأ يُطرح بحدّة في العقود الأخيرة في ضوء التأثّر بما يُطرح في الغرب من أفكار حول الرجل والمرأة، وأخطر ما في الأمر هو أنّ التجربة الغربيّة لا تتناسب مع مجتمعاتنا، حتّى لو كانت مناسبة لبيئتهم الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة. والنقطة الثانية هي أنّ التجربة الغربيّة في هذا المجال غير نهائيّة، وغير محسومة، وآخذة في التبدّل والتغيّر، بل إنَّ إرهاصات الفشل بدأت تظهر في العديد من السلوكات التي يروّج لها في الغرب، ولا يحسن بالعاقل اتّباع ما لم تُعرف عواقبه ونتائجه بعد، فكيف باتّباع ما يحمل مؤشّرات فشله؟!
(1) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادّة (عدل).
(2) المصدر نفسه.
(3) الشيخ الصدوق، الاعتقادات في دين الإماميّة، ص69.
(4) الشيخ عبد الهادي الفضلي، خلاصة علم الكلام، ص165.
(5) الشيخ مرتضى الأنصاري، مطارح الأنظار، ص65.
(6) الشريف الرضي، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 396.