نهى عبد الله
بعد ثلاث ساعات ونصف، قطعها صديقي سفراً إلى منزلي، وصل منهكاً عابساً، ولم تُخفّف عنه حفاوة استقبالي له، بل بادرني بقوله: "لن أرتاح ولن يهدأ لي بال حتّى تعود إلى صوابك"، ابتسمتُ وأشرت إليه بالجلوس لتناول الغداء.
لم تتغيّر ملامحه ولا طباعه مذ كنّا على مقاعد الدراسة، تواصلنا كان قليلاً بعد تخرّجنا من الأزهر، وزادت المسافات بيننا بعد أن اختلفنا حول قضيّة الغدير الشهيرة في حجّة الوداع.
بعد أن تناولنا الطعام، وبينما كنّا نحتسي الشاي، أخرج صديقي كتاباً تلو آخر؛ ليقنعني بقوله: "تولّى الشخص أي أحبّه فقط!"، وبدوري حاولت إقناعه برأيي، لكن يومنا انقضى، دون أن ينجح أحدنا في إقناع الآخر. وبعد نصف الليل، ودّعني بنظرة مُشفقة حزينة. ثمّ انتظرتُ ساعةً ونصف بعد انطلاقه، لأتّصل به هاتفيّاً، طالباً منه العودة لأمر لا يحتمل التأجيل، فعاد من فوره وأفكاره ترتطم في رأسه، وما إن وصل حتّى سأل متلعثماً: "ما خطبك؟!"، أجبته بهدوء: "أردت أن أخبرك أنّني أحبّك". اشتعل صديقي غضباً وصرخ في وجهي: "فقط؟! تركتني أقطع مسافة ساعة ونصف، وأعود أدراجي مسافةً مثلها؛ لتقول لي ذلك؟! أمجنونٌ أنت؟!" قلت له: "ما الضير؟ ألم يرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طلب الحجيج الذين قطعوا مسافة ساعةٍ أو ساعتين سيراً على الأقدام في حرّ الشمس، على تلك الرمال المُلهِبة؛ ليشهدهم على حبّه ابن عمّه عليه السلام فقط؟ نعم، فقط يا صديقي؟ أنت عُدت بسيّارتك المُكيّفة ليلاً، فلمَ آخذتني على ذلك، وقبلته في حقّ سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم؟! أيليق به؟!".
أتذكّر دهشة عينيّ صديقي الغائرتين. قضى تلك الليلة في منزلي يبكي حقيقةً لم يرَها في حياته، لكنّ عودة ساعة ونصف جعلته يُبصر.
بيروت
توفيق محمد
2023-07-05 18:18:33
رائع جدا .. طريقة اقناع بواسطة اليراع من دون ملالة ولا استحضار التعقيدات الاستدلاللية . اتمنى التوفيق لكل نتاحاتكم
سحمر شقيف
فاتن سعيد
2023-07-07 15:48:15
هكذا يكون الاقناع يا بلاه مأجورين على هيدا الاسلوب وربط الحاضر بالماضي وتلقيننا حجة للاخرين
النبطية
علي رضا
2023-08-02 01:11:47
عميقة جداً، ننتظر مزيد من الابداع