د. علي كريّم(*)
"عندما تصلك الخدمة مجّاناً، فاعلم أنّك أنت السلعة"! لعلّ هذه القاعدة المشهورة والمتداولة على ألسنة خبراء علم الاقتصاد، لم تصل إلى مسامع الكثير من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو حتّى المهووسين بالشراء عبر الإنترنت، في ظلّ ساحات افتراضيّة مفتوحة من العرض شبه المجّانيّ، لا يدرك متصفّحوها بأنّ لكلّ هذه السلع مدخليّة تجاريّة تستبطن اتّجاهات ثقافيّة وفكريّة وقيَميّة وسلوكيّة، تهدف إلى إعادة تشكيل العالم وفق صورة نمطيّة تُصنع من خلالها الهويّات الرقميّة، تمهيداً لصوغ الحقيقيّة منها.
•واقعٌ وأرقامٌ
هذا الواقع، يفرض التوقّف عنده، ومعرفة أدواته، وصولاً إلى مقاربته بمسؤوليّة وواقعيّة، وفرض التعامل الجادّ حياله؛ لذا، لا بدّ من البحث عن إجابة للسؤال الآتي: كم باتت وسائل التواصل الاجتماعيّ اليوم تفرض أنماطاً من السلوكات الاقتصاديّة المشوبة بالإسراف والتباهي والظهور؟
في معاينة للمشهد الواقعيّ، تُظهر إحدى الدراسات أنّ 90% من الجيل الجديد يقولون إنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ تجبرهم على مقارنة ثرواتهم أو أسلوب حياتهم بأقرانهم، ما يجعل 60% منهم يعبّرون عن عدم اكتفائهم بما يملكون بسبب ما يرونه في صفحات التواصل الاجتماعيّ، ولذلك قال 57% منهم إنّهم أنفقوا أموالاً لم يخطّطوا لإنفاقها، عدا عن ميلهم إلى التفاخر بتجاربهم وأغراضهم على تلك المنصّات كطريقة للمواكبة العصريّة!(1).
وفي مشهد آخر يشي بخطورة ما يستهلكه الناشطون على صفحات العالم الافتراضيّ، لا سيّما الفتية واليافعين منهم، كشفت دراسة تركيّة مشتركة أجرتها وزارة الشؤون الداخليّة التابعة للاتّحاد الصحّيّ الشرقيّ الدوليّ (UDOSAF)، وجمعيّة صحّة الموظّفين شرق الأناضول (DOSADER)، على أكثر من 2000 من طلبة المدارس في مدينة أرضروم التركية، أنّ ثمّة علاقة أكيدة بين الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعيّ وزيادة استهلاك الكحول والتدخين، حيث استطلعت الدراسة آراء 2309 من الطلّاب، الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و18 عاماً، في ما خصّ العلاقة بين استهلاكهم للكحول والإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ(2)، ليُعقد على ضوء هذه الدراسة مؤتمر جمع المتخصّصين والخبراء النفسيّين، ليخلصوا فيه إلى نتيجة مفادها: إنّ التدخين والكحول وإدمان الإنترنت كلّها عوامل تغذّي بعضها بعضاً.
•كيف بدأت القصّة؟
في إطار الاستراتيجيّات المعتمدة لدى إدارة الولايات المتّحدة الأميركيّة لشبكات الإنترنت وتعزيز القوّة السيبرانيّة، تسعى الثقافة الأميركيّة والغربيّة لدفع مجتمعاتنا إلى التسوّق، واستبدال الأسواق الحديثة بأماكن التسوّق التراثيّة والقديمة (الـMALL نموذجاً)، وامتدّ أثر ذلك؛ ليطال أشكال تواصل الناس؛ فبدل زيارة المساجد وعقد الجلسات الثقافيّة، ذهب كثيرون نحو جلسات التواصل الإلكترونيّ، التي أدّت دوراً متقدِّماً في مجال التسويق والإعلانات التجاريّة، حتّى دخلت مواقع التواصل الاجتماعيّ إلى لائحة "المخاطر" الاستثماريّة بقوّة، لتصبح من بين أوّل 5 مخاطر استثماريّة ماليّة لدى الشركات. واللافت في الأمر، أنّه في العالم العربيّ، يلجأ أكثر من 86% من المستخدمين الناشطين على الإنترنت إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ؛ للحصول على الأنباء والمعلومات والمشورة حول المسائل التسويقيّة والتجاريّة المختلفة التي تخصّهم(3).
•ما هي خلفيّة هذه الاستراتيجيّات؟
انطلاقاً ممّا بات يُعرف بـ "أيديولوجيا الإعلان"، والقائم على تأثير الإعلان في الترويج للسلع والخدمات، بات الهدف هو نشر القيم والاتّجاهات الجديدة، ودفع المتلقّي إلى تقبّل أفكار أو أشخاص أو منشآت معلن عنها، فضلاً عن تغيير العادات والأذواق وسط مستقبليه؛ لأنّ هذا الإعلان تحديداً يحمل قيم صانعيه؛ ليكون إحدى أدوات التغيير الاجتماعيّ(4).
من هنا، فإنّ هذا الهدف التجاريّ الاقتصاديّ في ظاهره، يستبطن هدفاً ثقافيّاً في باطنه، إذ إنّه ينمّي الروح الاستهلاكيّة عند المستخدمين، من خلال الدعاية والحثّ على الشراء والتجديد في امتلاك السلع، والدخول في دوّامة "التطلّع والتملّك"، فتسيطر عليهم -أي المستخدمِين- دورة استهلاكيّة مدمِّرة، إلى درجة "استهلاك الاستهلاك"؛ فلم يعد للمشتري هدف حقيقي سوى تلبية الرغبات النفسيّة الموهومة، والتي لا يعرف هو نفسه، كيف نشأت لديه، إذ إنّها لا ترتبط بالحاجة الحقيقيّة للسلع، بل بمجاراة الدعاية عبر تقنيّات التسويق المعتمدة على منصّات التواصل الاجتماعيّ.
هذا الانسلاب الاستهلاكيّ سيدفع بمجتمعاتنا إلى الارتباط المباشر بالسوق الأميركيّة، ككتل من المستهلكين، لا كمنتجين أو مصدِّرين، ممّا يُضعف منعة الاقتصاد لدينا. وهذا ما سيدفع الشركات الكبرى في عالم الإنترنت للوصول إلى مرحلة إنترنت الأشياء بحلول عام 2025م، حيث ستصبح معظم الأشياء "الجامدة" المحيطة بنا متّصلة بالإنترنت، وهو عالم سيربط السلع الإلكترونيّة المنزليّة بالإنترنت، ابتداءً من الثلاجة وفرشاة الأسنان وصولاً إلى المدن الذكيّة(5).
•تأثير هذه المنصّات على الناس
إنّ الحضور المفرط على منصّات التواصل الاجتماعيّ، سيسمح بمراقبة نمط حياة الآخرين، مثل رؤية صورهم وهم يستمتعون على شواطئ البحر، وآخرين يتسوّقون في الأسواق التجاريّة الضخمة، وآخرين يقضون وقتاً ممتعاً مع الأصدقاء، بتناول وجبات لذيذة، قد لا يملك المتصفّح قدرةً على شرائها.
كلّ هذا لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام، بل له دور كبير في اهتزاز ثقة بعض الأفراد بأنفسهم، واستيائهم من حياتهم التي تغلب عليها الرتابة والملل؛ إذ إنّ المقارنة تُشعرهم بعدم الاكتفاء وتزعزع من قناعاتهم، وتقلّل من احترامهم لذواتهم، وقد تزعزع ثقتهم في قدراتهم العمليّة لإنجاز مهمّة ما، أو للوصول إلى هدف معيّن، بالرغم من أنّ كلّ هذه التصرّفات مصطنعة بطريقة افتراضيّة، وبعيدة عن الواقع ولا تلائم أنماط الحياة التي اعتدنا عليها في مجتمعاتنا(6).
•ظاهرة "البلوغرز" واستراتيجيّات الشهرة
الـ "بلوغر - blogger" مصطلح يعنى المدوّن، لكن التدوين اليوم ليس على الأوراق، بل على شاشات تشابهت عليها الحروف، فانقلبت المعاني مدفوعةً بإغراء العقول؛ فالعنوان المحمول على جهل يقود إلى كامل البنية التي بنيت عليها ما وصفت بأكثر استراتيجيّات التسويق اِسْتِخْدَاماً في عصرنا الحديث، وفي عالم رقميّ تملؤه المشاهد المزيّفة، ولا قيمة تعلو على قيم الإغراء فيه(7).
لقد أصبح هؤلاء أهدافاً أَسَاسِيّة للشركات وأصحاب المتاجر، عبر استراتيجيّة الترويج لمنتجاتهم؛ لكونهم الأقرب إلى الجماهير؛ إذ يأكلون ويشربون ويلعبون ويبكون ويعانون أمام جماهيرهم، مُحَقِّقِينَ بذلك القرب النفسيّ الشديد، والذي يدفع متابعيهم إلى محاولة اِقْتِنَاء مَا يَقْتَنِيهُ هؤلاء وتقليدهم في كلّ شيء؛ فهم يُتْقِنُونَ اللعب على حاجة متابعيهم للانبهار.
الاستراتيجيّة الأخرى التي تُتّبع بعد أن يكسبوا تعاطف الجمهور، هي استراتيجيّة استغلال حاجاتهم للمال، وتحسين أوضاعهم عن طريق أسلوب المسابقات المزيّفة، والهدف منها نيل رضى الشركات التي تموّلهم والترويج لها؛ لتحصل على عدد متابعات تكون أغلبها مزيّفة.
تأتي أيضاً استراتيجيّة الحياة الفارهة -التي تكون في الواقع عكس ظاهرها تماماً- عن طريق ارتداء ملابس من ماركات معيّنة، أو تناول أطعمة في مطعم معيّن مشهور، وغيرها، وكلّها تهدف إلى إبهار الجمهور المتابع.
إنّ هدف تلك الاستراتيجيّات المذكورة ليس فقط الترويج، بل أبعد من ذلك؛ فمحاولة إشراك الجمهور في الحضور اليوميّ المتكرّر، خلال ساعات اليوم الواحد، يخلق جوّاً من التقارب النفسيّ بين الـ "بلوغرز" والمتابع، فيؤثّر في الأخير بصورة كبيرة، الأمر الذي يفسّر ظهور أنماط حياة حديثة، وتعدٍّ كبير على قيم المجتمع في أغلب الأحيان، فيصبح "المُتابع هو السلعة بنفسه".
•التصفّح دون الوقوع في المصيدة
إزاء ما تقدّم، وللحدّ من "هوس الاستهلاك"، لا بدّ من العمل على الآتي:
1. معرفة حقيقة شبكات الإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، بأنّها تمتلك أبعاداً أيديولوجيّة في ما تقدِّمه، وهي ليست أدوات محايدة، ويتمّ الاستثمار فيها من قِبل القوى المتحكّمة بهذه الشبكات والمنصّات لغايات وأهداف كبرى.
2. تربية الذات، ومن ثمّ المحيط، ولا سيّما الجيل الناشئ، على ثقافة القناعة والرضى أوّلاً، والثقة بالنفس ثانياً، والقدرة على إنتاج هويّتنا بجماليّتها وما تمتلك من رموز وجاذبيّة.
3. البحث عن السعادة الحقيقيّة في الحياة الواقعيّة، وليس في الحياة الافتراضيّة، انطلاقاً من العيش المشترك والجماعيّ، واستشعار قيمة الاستهلاك الفعليّة في ظلّ ظروف، أكثر ما نحتاجه فيها هو التكافل والتضامن والمواساة لذوي الحاجات على اختلافها.
4. تعبئة الفراغ الدافع نحو "فضول" التصفّح والتطلّع الدائم، والذي هو مضرّ وسلبيّ، ودوماً ما يُغرق المتصفّح في دوّامة "التطلّع والتملّك" ولكن دون جدوى!
5. الاقتناع بأن ظاهرة الـ "بلوغرز" هي ظاهرة مصطنعة، بل موهومة، لها أهداف تجاريّة في ظاهرها، وقيميّة في باطنها، وأول أهدافها هي تحويل المستخدِم لشبكات التواصل إلى سلعة بحدّ ذاتها.
هذا غيض من فيض عالم شبكات الإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، فهلّا تدبّرنا في حقيقتها، وامتلكنا الإرادة لمواجهة ما يحاول الآخرون فرضه علينا لنصبح استهلاكيّين بامتياز حتّى عبر هذه الأدوات، أو أنّنا سنسعى لحفظ القيم والهويّة قبل فوات الأوان؟
(*) أستاذ جامعيّ، ومدير الدراسات الميدانيّة في مركز الأبحاث والدراسات التربويّة.
1.راجع: نون علوان: طبقة الأثرياء الجدد مظاهر خدّاعة عززتها منصات التواصل الاجتماعي، مقال نُشر على موقع "نون بوست"، 2018.12.20م.
2. راجع: دراسة تربط بين إدمان وسائل التواصل الاجتماعيّ وزيادة معدلات التدخين واستهلاك الكحول، تقرير على موقع "تودايز زامان"، 2014.08.05م. -نقلاً عن: مركز الحرب الناعمة للدراسات: شبكات التواصل الاجتماعيّ: منصّات الحرب الأميركيّة الناعمة، ص 52 – 53.
3.راجع: رشا أبو زكي: مواقع التواصل الاجتماعيّ.. خطر على الشركات، جريدة الأخبار، العدد 1799، 2012.09.04م.
4.راجع: مركز الحرب الناعمة: الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ –دراسة في استلاب الاستقلال الفكريّ والثقافيّ للناشطين والمستخدمين، مركز المعارف للدراسات الثقافيّة، ص 66.
5.راجع: إنترنت الأشياء: من الثلاجة وفرشاة الأسنان إلى المدن الذكيّة، جريدة الأخبار، العدد 2244، 2014.07.15م.
6. راجع: مركز الحرب الناعمة: الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ –دراسة في استلاب الاستقلال الفكريّ والثقافيّ للناشطين والمستخدمين، مصدر سابق، ص 53 - 54.
7. راجع: الشيماء أبو الخير: ظاهرة البلوجر، مقال على موقع صدى البلد، 2022.12.14م.