د. غسّان طه
يختزن مسير الركب الحسينيّ ذخيرة وافرة من المعاني والرموز والدلالات الروحيّة عبر التاريخ، أسبغ الإنسان المتديّن عليه صفة القداسة، وجعل منها أماكن مقدّسة يوليها المحبّون والموالون اهتماماً خاصّاً، من قبيل الزيارة والدعاء والتبرّك.
وقد كان للجماعات والشعوب القاطنة في جوار تلك الأماكن الفضل في حفظ إرثها، وتناول قدسيّتها عبر الزمن.
في هذا المقال، إطلالة على بعض محطّات مسير الركب الحسينيّ، ومسألة إنتاج ذاكرته وكتابة تاريخه.
•تخليداً عبر الزمن
إنّ الأمكنة التي مرّ بها موكب السبايا، بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في العاشر من محرّم سنة 61 للهجرة، والتي تمتدّ من العراق إلى أرض الشام، مروراً ببعلبك، وصولاً إلى دمشق، هي عبارة عن أمكنة لأضرحة ومقامات أضاف عليها الإنسان من ثقافته في فنّ البناء والعمارة، تخليداً لتلك الحادثة ودوام استذكارها، ليس عند استعادة زمن الحادثة في العاشر من محرّم فحسب، وإنّما لكي تبقى مخلّدة طيلة دورة الزمن.
وقد شكّلت هذه المشاهد مجالاً للنسيان في بعض الأزمنة وبعض الأمكنة، خصوصاً للجماعات غير القاطنة في جوارها. لكنّها أيضاً، شكّلت إرثاً ثقافيّاً ينتقل من جيل إلى جيل في أزمنة أخرى.
إنّ تلك المشاهد، ليست تراثاً ثقافيّاً يُحاكي فنّ العمارة وأثر الزخارف، إنّما يمكن عدُّها أماكن أعانت الذاكرة التاريخيّة للجماعات وللقاطنين في جوارها على مرّ التاريخ في حفظ تلك الصِّلة بين واقعة كربلاء وبين مستتبعاتها، كمرور الرَّكب الحسينيّ.
•شحنات روحيّة
إنّ أغلب هذه المشاهد هي عبارة عن أماكن مادّيّة، كمسجد رأس الحسين عليه السلام في رأس العين في بعلبك، وأماكن صارت تضطلع بوظائف مختلفة للتعبّد، أو أخرى بقيت عبارة عن وجودات مادّيّة لم تُمَسّ ولم تتدخّل فيها يد الإنسان، ولكنّها مع ذلك، تحمل شحنات روحيّة وعاطفيّة لتلعب دوراً في حفظ الذاكرة التاريخيّة المنقولة شفويّاً، لا على سبيل حادثةٍ تاريخيّةٍ، إنّما كحادثةٍ لا تزال تلك الأماكن تحكي قصّتها على الدوام لدى الجماعة القاطنة في محيطها الملازم لها.
•إعادة إنتاج الذاكرة
فالجماعة المقيمة في جوارها، تعيد إنتاج ذاكرتها من خلالها، دون أن يتعدّى ذلك إلى جماعات أخرى بعيدة عنها في القرى المجاورة. وقاطنو بعلبكّ، نادراً ما يعرفون تفاصيل مسيرة الركب الحسينيّ، خلا ما قد علق في ذاكرتِهم عن محطَّ الرحال في بعلبك أو مقام السيّدة خولة عليها السلام. والقاطنون في قرية الخريبة، في محيط بعلبكّ، على طريق دمشق، قد لا يعرفون بالضرورة محطّات الركب قبل الوصول إليها، وهكذا. ومردُّ ذلك إلى عدم تحوُّل الذاكرة الشعبيّة إلى ذاكرة مكتوبة تستجمع تفاصيل سير الركب الحسينيّ على امتداد المسير من كربلاء إلى دمشق، وبالخصوص على طول الناحية الغربيّة لسلسلة الجبال الشرقيّة لسهل البقاع.
•استبعاد كتابة التاريخ
إنّ تحول الذاكرة الشعبيّة إلى تاريخٍ مكتوبٍ، كان من المسائل المستبعدة لدى الباحثين؛ إذ لم نجد من ينكبّ على هذه المهمّة، أو من هو مستعدُّ في وعيه التاريخيّ لإعادة رسم تلك اللوحة ودلالاتها الرمزيّة المعبّرة، أكان من ناحية نبش التاريخ، أم من ناحية تنظيم المخزون التراثيّ الذي احتضنته الذاكرة الشعبيّة. ولكن ممّا لا شكّ فيه، أنّ تلك العوامل المرتسِمة منذ قرون خَلَت، تضع فئة المتنوِّرين المحليّين أمام مِحَكّ الاختبار لثقافتهم البحثيّة في التعامل مع حقائق موضوعيّة تضعهم في مواجهتها، وتستنفر حِسَّهم في البحث والتنقيب لإجلاء كامل الصورة، وهو ما لم يحدث. وغالب الظنّ، أنّ تلك الأسباب تعود على الأقلّ، في الحقبة العثمانيّة ومرحلة الانتداب، إلى وجود نوعين من المثقَّفِين:
1- المثقَّف الدينيّ: الذي يُعدُّ في المدارس الدينيّة الخاصّة، وقد نَدَر وجودُ هذه المدارس في المرحلة العثمانيّة بالمقارنة مع المدارس الدينيّة التي شَهِدها جبل عامل.
2- المثقَّف العصريّ: خِرّيج المدارس العثمانيّة والمدارس الرسميّة والخاصّة في المراحل الإعداديّة، ثمّ الثانويّة؛ خلال مرحلة الانتداب الفرنسيّ.
وإذا ما نظرنا إلى النوع الثاني المُعدّ أكاديميّاً، فإنّه لم يتعيّن عليه بعد الدراسة أن يكون باحثاً بالمعنى الدقيق. في حين نشطت الكتابات التاريخيّة لدى من يتيسّر له استعمال علومه إلى ما بعد الستّينيّات من القرن العشرين بسبب إنشاء الجامعة اللبنانيّة، أو ممّن تيسّرت له الدراسة في الجامعات الخاصّة في لبنان وخارجه.
ولكنّ بحوثهم وكتاباتهم جاءت لتُعنى بأحداث تاريخيّةٍ مرّت بها المنطقة لقرون خَلَت، ولم نشهد عملاً بحثيّاً تحقيقيّاً حول مسير الرَّكب الحسينيّ.
أمّا خرّيجو المدارس الدينيّة، فجُلُّ اهتماماتهم انصبَّ على دراسة علوم العقيدة والفقه والحديث والتفسير وتدريسها، ولم تكن تلك المشاهد كافية من الناحية البحثيّة لدى هؤلاء. ولم يكن قد دخل إرث الذاكرة الشعبية حتّى تاريخه إلى مضامين النصّ الكتابيّ لحادثة كربلاء بشكل كامل ووافٍ، مع أنّ ذلك لو تمّ إنجازه لتمّت الاستفادة منه في مجالات التوظيف العاطفيّ والوجدانيّ لمسيرة الركب الحسيني لدى عموم الشيعة، ولا سيّما القاطنين في جوار تلك المشاهد على امتداد سهل البقاع والسلسلة الشرقيّة.
•ربطاً بين الحاضر والماضي
وهكذا، لا يُنظر إلى المعالم والمشاهد المتناثرة على طول مسير الركب الحسينيّ، على أنّها أشياء مادّيّة؛ بمعنى أنّها حجارة وأتربة، وإنّما بما تحمله من معانٍ كامنةٍ فيها، ومضامين روحيّةٍ نابعةٍ من وعي الجماعة لنصِّها ولذاكرتها الجماعيّة، تؤدّي إلى ترسيخ علاقة الفرد بانتمائه وببنيته الاجتماعيّة القائمة، وتضعه في حوارٍ ذاتيٍّ ودائم مع حادثةٍ تاريخيّةٍ يعيد إنتاجها على الدوام، بالاستناد إلى مخزونه الواعي والوجدانيّ الذي يجعله مستعِدّاً دائماً وتكراراً للدخول إليها في ضوء تلك المُرتكزات الوجدانيّة والواعية، من خلال ممارسات رمزيّةٍ تعكس هذا الوعي والشعور بالمكان المقدّس الذي يربط بين الحاضر والماضي.