(وفق رؤية السيد القائد دام ظله)
بقلم: الشيخ خليل رزق
اتّخذت الدعوة الإسلامية منذ انتقالها إلى المدينة مع هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها طابعاً جديداً وومختلفاً عمّا كانت عليه في مكة المكرمة، وذلك عندما إنتقل الخطاب الإسلامي النبوي من منطق الدفاع عن الدعوة إلى موقع الهجوم، وبيان عالمية الرسالة الإسلامية الناسخة للشرائع السابقة التي جسّدتها مقولة القرآن بعدم قبول غير الإسلام ديناً.
وظهرت المعالم الجديدة للدين من خلال رسائل لنبي صلى الله عليه وآله وسلم عبر سفرائه ومبعوثيه إلى ملوك وجبابرة ذلك الزمن، حسبما روى المؤرخون من أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث برسله من المدينة في يوم واحد إلى ملوك إيران والروم والحبشة ومصر واليمامة والبحرين والحيرة (الأردن). وبذلك طرح رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عالمية الدعوة الإسلامية إلى جميع شعوب العالم آنذاك.
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسائله بتعريف الإسلام على هؤلاء الملوك، وإنما حمّلها مضموناً فيه الإنذار والتهديد والوعيد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم...) باستثناء رسالته إلى ملك الحبشة التي بدأ فيها بالتسليم عليه، إرسال تحيّاته الشخصية إليه، وهذا ما لم يفعله في سائر كتبه إلى قيصر وكسرى والمقوقس حكّام إيران والروم ومصر.
من هذه المقدمة نكتشف العديد من الأمور منها: معرفة أسلوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشر الدعوة الإسلامية، وكذلك الإطلالة على الواقع الإسلامي في ذلك الوقت والذي بدأ بفرض نفسه وثقافته على كل الأمم والشعوب ومقارنته بالوضع الحالي.
فبعد جهاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه المسلمون الأوائل، والتضحيات التي قدّموها في سبيل إعزاز هذا الدين، وما بنوه من أمجاد، وما قدّموه من حضارة للتاريخ، أين نحن من هذا التاريخ بعد أن أضاع المسلمون هذا التراث وابعدوا عن هذه القيم، ولم يعد لهم أي اهتمام بنشر تعاليم هذا الدين. وأضحى هاجسنا اليوم يتمثّل بالخوف على المسلمين نتيجة تشرذمهم وضياعهم وابتعادهم عن حقيقة الإسلام الأصيل مما سبب الرجوع من جديد إلى موقف الدفاع في مواجهة كل أشكال الغزو الثقافي الآتي من أميركا والغرب، والذي يتغلغل في مجتمعاتنا، وتأثّرنا بعاداتهم وتقاليدهم.
فكانت خاتمة القرن العشرين التراجع والتخاذل من قبل المسلمين وحكّامهم الذين تربّعوا على عروش النفاق وحكموا باسم الدين الذي لا يمتّون إليه بأية صلة سوى بالشعار والعنوان، وضياع الهوية لولا نافذة الأمل وإشراقة النور التي شعّت من دماء الشهداء وتضحيات المجاهدين من أبناء المقاومة الإسلامية الملتزمين نهج وتعاليم صاحب أعظم ثورة ونهضة إسلامية شهدها هذا العصر ألا وهو لإمام الخميني المقدّس.
فإن هناك العديد من الأسئلة التي تدور في الذهن ونحن نستقبل الألفية الثالثة وهي: كيف نستعيد كمسلمين هويتنا ونواجه التحديات المفروضة علينا، ونرفض كل أشكال التبعية الفكرية والثقافية؟؟
هذا الموضوع لما له من أهمية لكونه يرسم معالم المستقبل من خلال فهم الماضي، ولما له من آثار بالغة في التقدم والرقي والإزدهار، ولكونه يشكل أحد أبرز التحديات في هذا القرن الجديد الذي تشكّل فيه فكرة العولمة المظهر الجديد للاستعمار عبر الهيمنة الإقتصادية على مقدرات الشعوب، وفرض المعتقدات والأفكار التي تساعد على سلب الحرية والإختيار من الناس.
لأجل ذلك إحتلّ هذا الموضوع حيزاً كبيراً من كلمات وتوجيهات ولي أمر المسلمين وقائد الأمة الإسلامية الإمام السيد الخامنئي (حفظه المولى).
فنراه يحدِّد مفهوم الغزو الثقافي ويؤكّد على ضرورة وصولنا إلى مرحلة نعتقد ونؤمن معها بوجود مثل هذا الغزو لأنه تعبير عن قضية واقعية واضحة، وواقع قائم وموجود، في قبال من يغفل وينام ولا يكترث لمثل هذه القضايا الساخنة ويعيش على هامش الحياة.
ففي تحديده لمفهوم الغزو الثقافي يقول السيد القائد:
"معنى الغزو الثقافي والمراد منه، هو أن نقوم مجموعة سياسية أو اقتصادية بالهجوم على الأسس والمقومات الثقافية لأمةٍ من الأمم، بقصد تحقيق مآربها، ووضع تلك الأمة في إسار تبعيتها...".
فالأمر الخطير في الغزو الثقافي أنه لا يقتصر على مجرّد إحلال معتقدات وثقافات جديدة بقدر ما هو غزو إقتصادي وسياسي يهدف للسيطرة على المقدرات الإقتصادية والمادية والفكرية للشعوب.
وقد يكون لدى بعض إلتباس في فهم هذا الموضوع حيث يعتبر أن الخوف الكثير ووضع الهواجس أمام الناس إنما هو مجرّد خيال ووهم حيث لا وجود لمثل هذا الغزو فيؤكد سماحته بالقول:
«علينا أن نصدِّق حقاً، ونقتنع بأنا عُرضة اليوم لأمواج مُتدافعة من ضروب الغزو الثقافي... إن هناك هجوماً ثقافياً شاملاً ومنظماً ومخطّطاً له ضدنا...".
ولم نكن وحدنا كإسلاميين نعيش هذا الهاجس، فأوروبا بما تمثّل أضحت اليوم تتحدّث صراحة عن غزو ثقافي أمريكي، برغم من أنها تشترك مع أمريكا في ممارسة الغزو الفكري والهيمنة الإقتصادية على الشعوب.
وهكذا في روسيا برزت مؤخراً تيارات ثقافية وفكرية تحذِّر من الغزو الثقافي الأمريكي، بل حتى الأوروبي، في قبال التيارات الداعية إلى الانفتاح على أمريكا وأوروبا.
وأما اليابان فعلى الرغم من أنها سمحت لوجود تبادل تجاري مع أميركا وأوروبا، لكنها لم تسمح باختراق منظومتها الثقافية الخاصة التي ما برحت تجمع اليابانيين في إطار نسيج اجتماعي متين، والحفاظ على العادات والتقاليد التي تحكم المجتمع الياباني.
والدولة الوحيدة في العالم التي لم تطرح حتى الآن شعار الغزو الثقافي ولا تعاني من أي شيء على هذا المستوى هي أميركا والسبب في ذلك واضح وهو أن الذي يخاف من مواجهات وغزو الآخرين له فكرياً هو من يملك عمقاً حضارياً وهوية تاريخية أو عادات اجتماعية وتقاليد. ولكن أين هي أميركا من هذا كله، فأين هو تاريخها الحضاري، ومجتمعها النموذجي، ومفكروها وفلاسفتها وما شاكل ذلك؟
* بين التفاعل الثقافي والغزو الثقافي
لا ينفي الإسلام ولا يُحرِّم لاستفادة من علوم الآخرين وتجاربهم إذا كان ذلك يسد حاجات الإنسان ولا يتنافى مع التعاليم والقيم الإسلامية. أما إن كان ذلك يسبب تلوّثاً للقيم والمبادئ التي طرحها الإسلام ومفسدة للمجتمع فهذا أمر يرفضه الإسلام.
وفي معرض حديثه عن الفوارق بين التفاعل والتبادل الثقافي والغزو الثقافي يقول سماحة السيد القائد:
"لو عثرنا في معارف الغرب على ما يناسبنا، فعلينا أن نجذبه، ونتعاطى معه كما يتعاطى الإنسان السليم مع الغذاء، إذ هو يجذب المفيد لجسمه ويدفع الضار... ما هو حاصل الآن أن موج الثقافة الغربية يغزونا وينفذ في وجودنا من خلال الراديو والتلفزيون وكتب الموضة والموديلات والمجلات، ومن خلال الموج الدعائي والصخب الإعلامي.. فالتبادل الثقافي هو مبادرة تنطلق من عندنا، أما الغزو الثقافي فهو مُبادرة يُمسِكُ بها العدو، ومعركة يشنّها العدو ضدّنا، كي يستأصل ثقافتنا الذاتية".
* مظاهر الغزو الثقافي
من أجل مواجهة أية مشكلة لا بد من تشخيصها وتحديد نوعها. ونحن في موقع دفاعنا عن فهمنا ومبادئنا تجاه الهجمة الشرسة ضدنا، لا بد من تشخيص ومعرفة أهم القضايا التي يريد الأعداء أن ينفذوا من خلالها إلى ساحتنا، والتي يمكن إختصارها بما يلي:
أولاً: التركيز على الجانب الدنيوي: حيث يسعى الأعداء إلى تحريك الناس تجاه أمورهم المادية والمعيشية لينسوا آخرتهم.
ثانياً: تحريك عنصر الغريزة والشهوة وذلك من خلال العمل على تحطيم القيم الأخلاقية وزرع المفاسد في المجتمع، وأخطر ما في هذه القضية هو التركيز على عنصر الشباب حيث يقول سماحة القائد:
"لو أنهم أرادوا أن يحاصروا الشاب الذي سبق أن ذهب إلى الجبهة، فإنهم يعطونه في البداية جهاز فيديو، ثم يثيرون شهوته بوضع الأفلام الجنسية القدرة في متناول يده، ثم يجرّونه إلى عدة مجالس لهو وفجور..".
ثالثاً: محاولة النيل من أحكام الإسلام وقوانينه، وذلك من خلال العمل على إظهار عجز الإسلام عن تلبية طموح الناس، وعدم قدرته على إدارة شؤون الناس، والاهتمام بأمورهم الحياتية. وهذا يتم عبر بعض العلوم الاجتماعية التي تحمل بذور الفساد.
رابعاً: إطفاء الروح الثورية لدى المسلمين وإخمادها وفصل المسلمين عن مركز قيادتهم والمحور الذي يربطهم بالقيادة الإلهية المعصومة لأهل البيت عليهم السلام هذه القيادة المتمثلة بالإمام والمرجع السيد علي الخامنئي دام ظله. الذي يعتبر في عصرنا الحالي القطب الذي ينبغي أن تدور حوله كل القوى والفاعليات في مجتمعنا الإسلامي.
* ما هو الحل؟
وبعد طرحه لمشكلة الواقع الإسلامي وما يعيشه المسلمون من مشاكل يضع الإمام السيد الخامنئي مجموعة من القضايا تشكّل بمجموعها سبيلاً لاستنهاض المسلمين وتعزيز قدراتهم في عملية المواجهة، ومن هذه الأمور يذكر سماحته:
أولاً: نهوض المسلمين لإحياء حاكمية الإسلام حيث يقول سماحته:
"إن سبيل علاج جميع آلام الشعوب الإسلامية ومشكلاتها وعثراتها يكمن بالعودة إلى الإسلام والحياة في ظل النظام الإسلامي وفي إطار أحكام الإسلام. فهذه العودة هي التي تبعث في المسلمين عزّتهم وتعزّز شوكتهم، وتجعلهم يرفلون بالنعم العظيمة..".
"... بمقدور الإسلام أن ينقذ المسلمين والإنسانية جمعاء، بشرط أن يُعرف معرفة صحيحة، ثم يطبّق على نحو سليم".
ثانياً: إتفاق المسلمين ووحدة كلمتهم حيث يؤكد سماحة السيد القائد على دور الإستعمار في زرع بذور الفرقة بين المسلمين مما استوجب تأخرهم عن الركب الحضاري وضياعِ النهضة الكبرى والحضارة التي بناها المسلمون الأوائل، ففي كلام له يقول:
"كان من طليعة أهداف الاستعمار أوائل نفوذه في البلاد الشرقية والإسلامية هو إيقاع الفرقة بين المسلمين... بدءاً من ترسيخ المشاعر الوطية وإذكاء دوافعها على نحو غير طبيي، وانتهاءً بتسعير نار الاتلافات المذهبية وغيرها".
ثالثاً: العودة إلى الثقافة الأصيلة المتمثلة بنهج الإمام الخميني المقدس لأنه يمثل الضمانة الأكيدة في الوصول إلى النصر حيث يقول سماحته.
"إن الإمام هو معلّمنا الوحيد نستلهم من وصاياه وهداه وأهدافه الإستمرار في نفس الطريق... يوم سار الشعب على خطى الإمام المباركة نحو اللَّه سبحانه، غير ملتفت إلى نداءات المادية والركون إلى حياة الدعة، انتصرت الثورة".
فهذه بعض أنوار الهدى التي اقتبسناها من فكر ولي أمر المسلمين الإمام القائد السيد علي الخامنئي دام ظله لتكون منارة وشعلة نستضيء بها في طريقنا المليء بالصعوبات والأشواك والمصاعب، لعلّ ذلك يوصلنا إلى شاطئ الأمان ويزيح عن كاهلنا هذا العبء الثقيل الذي حمّلنا إياه المستعمر.