سكنة حجازي
حلقتنا هذه تدور حول شخصية اختُلف في كونه عالماً أو نبياً. فلم يرد ذكره إلا في سورة الكهف في قصته مع كليم الله النبي موسى عليه السلام.
ولم تبين الآيات الكريمة صراحة ذلك، فقد ذكره الله تعالى بأنه عبد له وأنه آتاه العلم رحمة منه.
لكن هناك بعض الروايات التي تقول بأنه نبي وتستدل بقوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾. كما وتقول الروايات بأنه ما زال حياً وسيظهر مع النبي عيسى عليه السلام بمرافقة الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه.
وقد سُمي الخضر لأنه كان لا يجلس على خشبة يابسة أو أرض بيضاء إلا أزهرت أو اخضرّت.
قال تعالى محدثاً عنه مع النبي موسى عليه السلام في سورة الكهف:
﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾... ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ (65 ـ 82).
قصة الصبر المقترن بالعلم مع هذا العالم العابد تبدأ في حواره مع النبي موسى عليه السلام، بحيث يضع لنا قاعدة أساسية حتى يستطيع الصبر على الأحداث التي سيمر بها النبي موسى عليه السلام والتي سيتعلم من خلالها علوماً لا يمكن أن يدرك أبعادها إلا بعد مشاهدتها عياناً وبالتجربة الحسية ومن ثم إخبار الخضر عليه السلام بأسبابها.
وقد وصف الله تعالى الخضر عليه السلام بصفة مُشرقة ومشرّفة، غالباً ما وصف بها أنبياءه عليهم السلام، بأنه عبد من عباده إذ العبودية أعلى درجات القرب منه تعالى فقال عزّ من قائل {وجدا} موسى عليه السلام وفتاه {عبداً من عبادنا} العبودية جعلته مستحقاً وأهلاً للفيض الإلهي {آتيناه رحمة من عندنا} التي فسرها المفسرون بأنها النبوة، وأيضاً علماً لا يحتاج إلى معلم ولا إلى وسائط مادية وهو علم خاص بأوليائه تعالى. وكان علمه عليه السلام تأويل الأحداث ومعرفة أسبابها.
شرط الصبر:
المعروف عن النبي موسى عليه السلام أنه كان سريع الغضب لله تعالى، وقد أدرك الخضر عليه السلام هذه المسألة فقال له: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ لكن النبي موسى مع عدم نفيه مشقة الصبر تعهد له وقرن تعهده بمشيئة الله في ذلك وهذا من أدب النبوة البارع ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾. وبما أن العالم الجليل الخضر عليه السلام كان يقوم بالعمل إنطلاقاً من حكم الله تعالى وامتثالاً لأمره، اشترط عليه عدم السؤال حتى يُحدث له ذكراً منه وقال له: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ فأنت لن تستطيع تحمل ما يجري في الطريق لأنه عندما يجهل حقيقة ذلك الحدث وأسبابه ودوافعه، مع أن باطن هذا الحدث وحكمته تكون للمصلحة العامة أو لمصلحة الشخص نفسه. لذا فإن النبي موسى عليه السلام تصرف تصرف إنسان مؤمن عابد يعيش مسؤولية عبادته وتصرف المسؤول عن عباد الله عندما وقف موقف المستفهم المنكر على الخضر عليه السلام تصرفه وأعماله.
* العلم المقترن بالأدب ينتج عنه الصبر:
هنا يظهر جلياً أدب العالم بالله العابد له المتأدب في نفسه ومع ربه ومع نبي الله وذلك عند تأويله للآيات (الأعمال التي قام بها وأنكرها، عليه النبي موسى عليه السلام). نلاحظ أنه عندما نسب الأعمال التي تُشعِر النقص نسبها إلى نفسه ولم ينسبها إلى الله تبارك وتعالى، فقال عن خرق السفينة ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ جاء بصيغة المتكلم المفرد.
أما عندما جاز له أن ينسب الفعل له ولله تكلم بصيغة الجمع فقال ﴿فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ وقال ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ للأبوين الصالحين.
ولما كان اختصاص الفعل المتعلق بالربوبية المطلقة لله تعالى وتدبيره فقد نسبه له تعالى دون أي تدخل منه فقال: ﴿فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا ﴾ عن اليتيمين.
ثم ينهي حديث مع نبي الله {وما فعلته عن أمري} إذ قمة الامتثال للأمر الإلهي بأن يذكر بأن كل ما جرى إنما هو بأمر صادر عن رب الأرباب ومسبب الأسباب.
* المؤمن لماذا ومتى يصبر؟
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة/ 155 ـ 157).
البلاء درس من دروس الحياة الدنيا ومحطة يقف عندها الإنسان المؤمن فيتذكر ويتفكر ليعيش مع الله ومع ما علمه عبر أنبيائه وأوليائه. فهو يعلم أن مبدأه ومآله إليه تعالى. إذاً هو يعلم كل العلم بأن كل ما يعترضه وكل ما يقوم به بعين الله تعالى وتحت رعايته، وما دام يعرف أنه راجع لا محالة إلى رحمته العظيمة وعطفه الربوبي الفياض فلن يحتجّ بل سيكون راضياً كل الرضا بما يصيبه من خير أو شرّ ظاهراً. لذا قال تعالى عنهم ﴿هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ إلى الرحمة والأجر العظيم.
وقد كان المثال والمصداق لهذا الرضى والقبول الحسن إمام وفادي الإسلام الإمام الحسين عليه السلام عندما قال في آخر ساعات المعركة العاشورائية: هوّن ما نزل بي أنه بعين الله.
ثم قال بعد أن خضب لحيته المباركة بدمائه الزكية: هكذا ألقى الله ورسوله مخضباً بدمي. لأنه أعلم الناس بما عند الله تعالى من الرضوان الأكبر.
نسأله تعالى أني من علينا بالعلم النافع، والأدب البارع والصبر الرافع للدرجات عند الله تبارك وتعالى إنه قريب مجيب.