حوار حسن ريا، ماهر حسين
عاش لبنان هذا العام ومنذ الأيام الأولى لشهر رمضان المبارك حالة فريدة مع ربيع القلوب ومؤنس النفوس مع القرآن الكريم، حيث جاء البرنامج المعد من قبل حزب الله وجمعية القرآن الكريم ليضفي على ليالي هذا الشهر صورة مشرقة في المساجد، في مشهد من مشاهد الصدر الأول للإسلام حيث تلاوة القرآن ومذاكرته كانتا الشغل الشاغل.
وقد ساهم في بلورة هذا المشهد حضور نخبة من كبار قراء القرآن الكريم وحفظته، ويأتي من بين هؤلاء المقرئ الدكتور (طبيب أطفال) أحمد النعنيع الذي استغلت أسرة مجلة بقية الله فاصلة بين مجالسه القرآنية المتعددة لتعرف منه بعض فصول قصته مع كتاب الله تعالى، فكان هذا الحوار:
* بداية عندما يقف المرء أمام أحد مقرئي القرآن الكريم لا بد وأن يشعر بهيبة القرآن تحيط به من كل جانب إننا نعرف النعنيع صوتاً مرتلاً آيات الله، نعرفه صوتاً وشجياً رخيماً، نعرفه بهذا القدر، ونشعر بقيمة فضله وهو يحبب إلينا القرآن الكريم بصوته وأدائه المراعي لكل أحكام التلاوة وآدابها، وهذا النغم والإيقاع القرآني بالتأكيد هو حصيلة جهد طويل ورحلة ممتعة مع القرآن الكريم، فكيف يقدم لنا النعينع نفسه في رحلته القرآنية هذه؟
ـ هذه الرحلة القرآنية بدأت منذ الصغر حيث منحني الله موهبة الصوت الجميل وهذه الموهبة لا تأتي ولا تنزل من السماء على شخص تجاوز العشرين فلا بد أن تكون الموهبة من الطفولة وهناك من يسألني كيف يصبح قارئاً مشهوراً وذا نفس طويل وصاحب نغمة فأقول له إن لم تكن لديك موهبة من الصغر وهبها الله سبحانه وتعالى وثم تنمي هذه الموهبة وتدربها فمن غير الممكن أن تصبح كذلك.
وكنت منذ الطفولة أنمي هذه الموهبة فأقلد أصوات الطيور والحيوانات وأصوات القراء وخرير المياه، واذكر أني كنت أقلد من كانوا يقرؤون القرآن في الإذاعة، كالشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ رفعت وكنت اقرأ مثلهم، حفظاً، ونغمة عن المذياع (الراديو) وهذا كان قبل أن أدخل المدرسة، وأنا في هذا العمر كنت أردد مع المقرئ في الراديو لكن في بعض الأحيان أُخطئ فعلى سبيل المثال، بدل أن أقول (فبأي آلاء ربكما تكذبان) أقول فبأي آلاء ربكما تكرمان، أو بدل (يدخلون في دين الله أفواجاً) كنت أردد يدخلون في دين الله أخواجاً، فبدل أن أقول أفواجاً كنت أقول "أخواجاً" ذلك لأنني حفظتها من الراديو، فعلى هذا المنوال حفظت ثلث القرآن وأنا طفل، فهذه الرغبة والهواية والانشداد لسماع وتلاوة كتاب الله جعلتني أذهب إلى كتّاب قريتي نطوبس في محافظة كفر الشيخ وأتعلم منهم القراءة حيث فوجئوا وأيضاً أبي الشيخ، بأني أحفظ أكثر من ثلث القرآن سماعاً، ومن الرغبة الشديدة لتعلم التلاوة والحفظ، لم يأخذ حفظ القرآن معي أكثر من سنة، حيث حفظت القرآن قراءة عن لوحٍ خشبي، حتى الآن وبعد هذه الرحلة الجميلة مع القرآن أقرأ كل يوم خمسة أجزاء من الذاكرة، كي لا أنسى.
* على يدِ مَن مِن الأساتذة القراء تتلمذتم؟
ـ بداية على يد الشيخ أحمد الشوا في بلدي نطوبس ثم أصبحت مقلّد للشيخ والقارئ الكبير مصطفى إسماعيل، وبحكم أن بيتنا بجوار المسجد كان المحتفلون بذكرى المولد النبوي الشريف والإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان يأخذونني وأنا طفل لأقرأ بجوار الشيخ مصطفى إسماعيل فأقلده بالضبط، هذه كانت رحلتي الأولى في تعلم قراءة وتجويد القرآن، ثم دخلت الثانوية وتعلمت القراءات السبع، بعدها دخلت كلية الطب في جامعة الاسكندرية وتخصصت في الأمراض الداخلية وأثناء دراستي في الكلية عرفني الطلاب أني مقرئ للقرآن بصوت جميل، فتعرف عليّ عميد الكلية الدكتور أحمد درويش الذي صار وزيراً للصحة فيما بعد وأخذني إلى جمعية الشباب المسلمين ـ حيث كان الرئيس الفخري لها ، لأقرأ القرآن هناك حيث كان يحاضر كل يوم خميس في هذه الجمعية عدد من مشاهير القاهرة الثقافيين كشيخ الأزهر والشعراوي.
* متى بدأ النعينع يجوّد في المحافل القرآنية الكبيرة؟
ـ الشرارة الأولى كانت في الاسكندرية إن في كلية الطب أو جمعية الشباب المسلمين ثم ذاع صيتي في المحافظات المجاورة ومن ثم في مصر كلها، حيث بدأت أقرأ في المساجد الكبرى التي تقام فيها المحافل القرآنية ثم ذهبت للإذاعة والتلفزيون وامتحنت مع عدد من المتقدمين أيضاً وكانت نتيجتي الأول، فأصبحت قارئ للإذاعة والتلفزيون بعدها سجلت القرآن المرتل والقرآن المجود كاملاً ثلاث مرات مختلفة، ثم بدأت أسافر خارج مصر لأقرأ القرآن في شهر رمضان وغيره من الشهور، فسافرت إلى معظم بلاد العالم والدول العربية.
* ما الذي جعلك تتعلق هذا التعلق بقراءة القرآن الكريم؟
ـ أولاً الموهبة التي منحنيها الله عزَّ وجلَّ منذ الطفولة، وإعجابي الكبير بقراءة الشيخ مصطفى إسماعيل إن كان من ناحية طريقة القراءة أو النغمة التي كان يتحلى بها، والتي شدتني هذا الشد للتعلق بقراءة القرآن وبنفس النغمة.
* هل شعرت في القرآن سحر معين جذبك إليه؟
ـ عندما بدأت بترتيل القرآن في الطفولة لم أكن أعرف السحر ولا المعاني، كنت أقلد فقط، أما عندما كبرت ودخلت الكلية أصبحت اقرأ القرآن بطعم آخر وأتدبر في معانيه وأعيش آياته في أحاسيسي ووجداني، حتى أني لم أعد أستطيع القراءة بدون تدبر وتفاعل مع آياته.
* ما هو الأثر الذي تركته القراءة والتلاوة الدائمة على شخصية النعينع؟
ـ أولاً سلوك الطريق المستقيم، ثانياً التعمق في الإيمان بالله من خلال الآيات التي تدل على عظمة الله وعظمة خلقه حيث تجلى ذلك عملياً أثناء دراستي للطب وخصوصاً علم الأجنة Imperiologie حيث يقول الله جلَّ وعلا في سورة المؤمنون: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين وجعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة ثم خلقنا العلقة مضغة ثم خلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر) وبالمقارنة بما درست في علم الأجنة وجدت أن العلم توصل إلى هذه الحقيقة منذ ستين عاماً بينما تكلم عنها القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، ويقول أيضاً في سورة الزمر (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث) وهذه الحقيقة أيضاً توصل إليها الطب حيث يعني ذلك أن الجنين عندما يكون في بطن أمه يكون محاط بجدار الأمنيوت أولاً ثم جدار الرحم ثانياً ثم جدار البطن ثالثاً. وفي ذلك عبرة لأولي الألباب.
* هل دفعك القرآن الكريم نحو دراسة الطب؟
ـ لا، فأنا كنت أهوى دراسة الطب وصممت على ذلك.
* أنت طبيب أطفال فكيف توفق بين قراءة القرآن وبين مهنتك؟
ـ هو تنظيم للوقت، فأنا أنظم وقتي بشكل دقيق، فيومياً أقرأ خمسة أجزاء من الذاكرة أثناء ذهابي إلى عملي في المستشفى وعودتي إلى المنزل، فأنا استذكر القرآن في الوقت الضائع على الطريق، وفي البيت لا أضيع الوقت في مشاهدة التلفاز والبرامج التي لا طائل منها، إلا اللهو والافساد، أما من الناحية الطبية، فأنا أذهب في الصباح من الساعة الثامنة حتى الرابعة بعد الظهر وأمارس عملي بشكل طبيعي، بعد ذلك تبدأ الاهتمامات القرآنية المسائية سواء بالتسجيل أو بالقراءة في المساجد أو ألبي بعض الدعوات القرآنية، أيضاً فإني أخصص ساعتين يومياً لقراءة القرآن بعد صلاة الفجر.
* إلى أي مدرسة من مدارس قراءة القرآن ينتمي النعينع؟
ـ من الناحية النغمية فأنا أنتمي إلى مدرسة الشيخ مصطفى إسماعيل.
* هل أصبح لك مدرسة خاصة؟
ـ كنت أقلد السيد درويش ولما وصلت إلى قمة التقليد له بدأت بالإضافة، فقمة التقليد هي بداية الإضافة، والآن أعتقد أن الناس يميزونني عن الشيخ مصطفى إسماعيل لكن ما زالت روح قراءة مصطفى إسماعيل موجودة في قراءتي فكيف لا وهو أستاذي الذي تعلمت منه كيف استعمل صوتي والأنغام التي عرفت أسماءها، ومع هذا فأنا لي طريقتي.
* هل تعتبرون أن الموهبة هي النقطة الأساسية للانطلاق في تعلم فن التجويد؟
ـ أجل إن أهم ركن في فن التجويد هي الموهبة التي يمنحها الله، وأنت تصقلها وتنميها وتدربها على أنواع النغم، ولا يمكن للقارئ أن يصل إلى المستويات العليا إلا إذا كان عنده موهبة الصوت الجميل.
فمن السهل أن يتعلم الناس التجويد والحفظ والأحكام وأنواع القراءات، فهذا علم أما الصوت والنغم فموهبة من عند الله سبحانه وتعالى، فهي لا تكتسب ولا تأتي بالتعلم.
* هل للقارئ النعينع الذي أصبح متملكاً وخبيراً لقراءات القرآن أن يعطينا ما هي الوصايا التي يقدمها للسالك في طريق القرآن الكريم، في ترتيله وحفظه وتجويده؟
ـ من كان يريد أن يكون قارئ للقرآن وغاوي لتلاوته لكن ليس لديه موهبة فعليه أن يحفظ القرآن أولاً ثم يتعلم تجويده ويتعلم القراءات، ولا مانع أن يقرأ على قدر موهبته أو أن يكون مدرساً للقرآن، أما إذا كان عنده موهبة الصوت فعليه بعد أن يتعلم أحكام القرآن من حفظ وتجويد وتعلم القراءات، أن ينمي صوته ويقرأ كثيراً، فالصوت بحاجة إلى تدريب وتربية باستمرار لكي يطول النفس ويمتلك النغم، فإذا أردت أن تصبح مقرئ وأنت لا تتدرب على القراءة إلا كل شهر أو شهرين فإنك لن تصبح كذلك فعلى المتعلم أن يقرأ دائماً ويحتك بالقراء ويدرب صوته ويتعلم المقامات النغمية ويلعب الرياضة ليطول النفس، فكل ذلك هو من مقومات النجاح وبدونه لا يمكن للمتعلم أن يصبح مقرئ ممتاز.
* إذا انتقلنا للجانب الروحي فنجد أن القرآن ربيع القلوب ومصباح الهداية وفيه أعلا مراتبها والقرآن يدعو إلى ترتيله وتجويده، والقرآن يدعو إلى التأمل والتفكر في آياته فأين يجد النعينع نفسه في هذا الثالوث؟
ـ أنا لا أقرئ آيات القرآن إلا إذا قرأت تفسيرها أولاً، لكي أعيش معها بحضور قلبي، لذلك عندما أقرأ القرآن أشعر بأن أحاسيسي تتعايش مع آيات كتاب الله، فدائماً أثناء القراءة أحاول أن أعيش بوجداني مع الآيات حتى إذا عشت معها بكل وجداني وقرأتها بفهم وتدبر وتمعن وتفكر وصلت إلى قلب المستمع مباشرة، لأن ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب، وما يخرج من اللسان لم يتجاوزه.
* وأنتم تقرأون آيات القرآن هل تستحضرون المعاني والآفاق التي تفتحها هذه الآيات وهل تقومون بعملية تدبر فعلي للآيات؟
ـ نعم أنا أتدبر الآيات التي أقرأها وأعيش بوجداني معها كما ذكرت، حتى أني لا أستطيع القراءة بدون أن أعيش مع الآيات وأشعر بضيق في صدري، لذلك يجب أن تكون نفسي مهيأة ومحضرة للقراءة، فعندما أقرأ (يطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتم لؤلؤاً منشورا) أتصور هذه الحالة أو عندما أقرأ (وإذا رأيت ثم رأيت) فأنا فعلاً رأيت على مدى البصر، رأيت نعيماً كبيراً، ثم خفت، حتى أنني لا أستطيع أن أشرح بالكلام فقد عشت حالة المشاهدة الروحية.
* هل حقاً وصلتم إلى هذه الحالة، المشاهدة الروحية التي تصفونها؟
ـ والله وصلت إليها وعشتها بوجداني ولم أشعر حينها بنفسي فتهيأ لي أن رجلّي متعلقة بين الأرض والسماء وأنا هائم قد وصلت.
* إلى ماذا وصلت؟
ـ إلى حقيقة تلك الآيات.
* أي كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام واصفاً المتقين، إذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وإذا مروا بآية فيها تخويف ظنوا أنها نصب أعينهم؟
ـ بالضبط، فأنا قرأت نهج البلاغة وأعجبت به كثيراً، وكم تمنيت وأنا أقرأ القرآن أن أشعر بما يشعر به المتقين الذين وصفهم أمير المؤمنين عندما يقرؤون آيات الله.
* وفق المنهج الذي تفضلتم بذكره أنكم تقومون بعملية تدبر حقيقية واستشعار للصور التي تعطيها آيات القرآن الكريم، فهل خرجتم ببعض الحتميات القرآنية، وهل تشعرون أننا قريبون من بعض الأمور المستقبلية وسنأتي إليها. كما يبشر القرآن، المؤمنين بالجنة والكافرين بالنار ـ كقضية القدس مثلاً فهل تعتبرون أن الآية التي نزلت بحقها في سورة الاسراء تعني زوال الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين.
ـ هذا وعد القرآن، وعد الله، فإذا جاء وعده لا شك فيه والذي لا يعتقد بذلك فهو آثم (إذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة) فهذه القضية هي حتمية قرآنية وستتحقق إن شاء الله، لكن المسألة مسألة وقت.
* هل استشعرتم بحتمية أخرى غير حتمية زوال إسرائيل؟
ـ مثل ماذا!
* (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) هل هذا سيتحقق؟
ـ إن شاء الله سيتحقق، فهذا أمل كبير بالنسبة لنا، وليته يتحقق في عصرنا أو نحضره خلال أعمارنا.
* ما رأيكم بالطفل الإيراني الحافظ للقرآن؟
ـ ما رأيته شيء مبشر وجميل جداً وهذا الطفل المعجزة هو موهبة من الله سبحانه وتعالى كأنه كمبيوتر.
* كلمة أخيرة لعشاق القرآن؟
ـ يجب أن يكون القرآن معينهم، ويقرؤوه بتدبر ويسمعونه بإنصات وأن لا يكون همهم وهدفهم النغمة والتطريب، ولا بد أن يطبق تعاليم القرآن على نفسه أولاً ثم على أسرته ومجتمعه، والحمد لله.