ولاء حمود
يقول الله في كتابه العزيز وفي الآية الثالثة والرابعة والأربعين من سورة صلى الله عليه وآله وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم،
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ﴾. صدق الله العلي العظيم.
لا يعني تكرار الضمير المذكر أن مقالة العد ستتنكّر للاسم البالغ العاطفة الذي تصدّر العنوان لأنّ الملامح الوادعة لوجه صاحبة الإسم تختبئ خلف أفعال الأمر الثلاثة الواردة قبل الجزء الأخير من الآيات المذكورة أعلاه، لذلك يتصدّر هذان السؤالان الأسطر الأولى بقوة: من هو صاحب ضمير الهاء؟ ولِمَ اختبأت هذه المتوارية اللطيفة خلف الأفعال عن نصّ قرآني توجهت أفعاله لأجلها أصلاً؟ وسؤالٌ يزاحم سابقيه بحثاً عن سبب خلودها واستحقاقها مقاصير الجنان في روض البلاغة القرآنية وفي رياض الجنّة؟..
أجمع المفسرون والمؤرخون المتصدرون لكتاب الله تأريخاً وتفسيراً على اعتبار الجزء الذي يسبق الأخير من هذه الآيات موجهاً إلى أيوب نبي الله حمايةً لسيرةٍ لم تُذكر إطلاقاً في النص القرآني، وهي منيرةٌ تنفرد بها سيدة المقالة وتميزها عن سواها من السيدات اللواتي وردْن أو سيرِدْن تباعاً وهي ترتبط بنبي الله أيوب ارتباطاً وثيقاً جمعهما منذ اللحظة الأولى التي انطلق فيها قطار الحياة بهما معاً حتّى اللحظة الأخيرة التي غادراه فيها معاً وفي المحطة عينها وقد اختبأت هذه الغامضة حتّى هذا السطر خلف الظل الذي رسمته الآية الكريمة ليد نبي الله، لأنّ الظاهر، وعلى رأي بعض المفسرين أنّ حياته عليه السلام فاقت أهمية حياتها رغم ارتباط حياته بعجلة الصبر على البلاء والاستقامة على جادة الولاء لله كحياتها معه ومع ذلك ذكر في كتاب الله دونها، وقد تكرّر ذكره في آياتٍ أخرى من سورة الأنبياء. والآن من هي هذه الحاضرة غياباً؟ أما آن لها أن تترجّل من منصة الغياب التعبيري في القرآن لتحضُرَ بقوة في تفسيره حماية ورعاية لا يَخُصّ الله به سواها وأمثالها من النساء؟..
يعتبر السيد الطباطبائي في تفسير الميزان أنّ رحمة هي حفيدة يوسف من ابنه إفرائيم هي المعنية بهذه الآيات بينما يعتبر آخرون أنّ رحمة هي ضلع المثلث الذي شكل البقية الباقية من زواج النبي يوسف عليه السلام من زليخا التي سترد هي الأخرى كريحانة عطر تائب في كتاب الله. أن تُعتبر رحمة شقيقة إفرائيم أو ابنته أو خلاف ذلك أمر ليس بذي بال في بحثنا طالما أنه يؤكد انتماء رحمة إلى يوسف الصديق سواء كان يوسف أباً أم جداً، ففي ذلك دلالة كافية على طهارة منبت رحمة الذي يتصل بالأنبياء أبوّة ومنحدراً وبالأنبياء زوجيّة وسبباً. إذاً هي ابنة نبي وزوجة نبي وزجها صاحب الضمير المخاطب والغائب في آنٍ معاً في هذه الآيات، وهي خلفه في نص القرآن كما وقفت خلفه في مجرى البلاء الذي نُسِجَ حوله ما يُشبه الأساطير ومع ذلك بَدَتْ رحمة صورةً واقعيةً أقرب إلى الحقيقة منها إلى الأسطورة لأنّ جهادها قربه وحرصها عليه أمر دعا إليه الإسلام كلّ نساء الكون وأكّد عليه مع بنات الأنبياء ونسائهم لذلك جاء النص القرآني الذي جمعهما معاً كلاهما ظلاً للآخر ليُمجّد في أيوب صبره على ما قضاه الله ويُنصف رحمة ويسدل عليها ظلاً من رحمته سبحانه. ماذا في التفاصيل؟
كان ما ذكره القرآن عن مشهد أيوب الموشى بالظلال بسيطاً جداً، ثمة فعل أمر بالضرب بعد فعلٍ آخر يأمر بجمع ضغثٍ ثم نهي عن الحنث، والمشهد في ظاهره لا يشير حتّى إلى سبب الضرب وجنس المضروب وإن كان قد أشار في أول الآيات إلى كلمة "أهله" التي تعني لغة في ما تعنيه "زوجه" وغن كان قد أبرز بجلاء شخصية الضارب، ولو لم تتحدث كتب التاريخ نقلاً عن أئمة آل البيت لما عرفنا عن المضروب شيئاً وجُل ما يُظهره القرآن الكريم وفي سورة صلى الله عليه وآله وسلم: أنّ أيوب عليه السلام قد تعرّض لبلاءٍ وضرٍ وأنّه وصل إلى مرحلةٍ أطلق معها وببساطة دون تهويل أو تعظيم لواقع الحال – على عظمته وهوله – نجواه الرقيقة قائلاً: "إنّ مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين" فجاءته العناية الإلهية فلبته وبسرعة "اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب" فكان فيها شفاؤه، ثم جاء توجيهه لحلّه من ورطة يمين كان قد أقسمها وهو أنّه سيضرب زوْجَهُ حين يتعافى، لقد ذكر القرآن توجيه الله له لكيفية الخروج من هذه الورطة دون أن يذكر لنا عن المضروب شيئاً يبين لنا جنسه أو عمره أو أيّ تفصيل آخر سوى تفصيل أخذ الضغث باليد يليها الأمر بالضرب. والضغثُ في تاج العروس للزبيدي يقال لحزقةٍ من أثلٍ، نباتٍ دقيق الأغصان وإضافة كل هذا إلى النهي عن الحنث علمنا أنّ هناك قسماً بالضرب ويبدو أنّ النبي كان في منتصف الطريق بين قرار العودة عن الضرب بعد قرار الضرب فجاء الحل قرآنياً رفيقاً به وبالمضروبة راحماً رحيماً، اعتمد المفسّرون عن طريق آل البيت عليه السلام على الرواية القائلة أنّ اليمين وقع بالضرب مئة ضربة وأنّ المضروب الذي لم يُضْرَبْ هو زوجة محتسبة صابرة قرب زوجها المبتلى، لذلك كانت بنظره قبل أي أحد بريئة لا تستحق هذا القصاص الذي لا يمكن أن يصدر عن نبي يتصف بالرحمة بل ويرتبط بمن كانت له في حياته رحمةً من الله. لذلك، هو يرفض قبل الجميع أن يكون جزاؤها منه جزاء ستّار. ومع ذلك فقد حصل ما حصل كيف ذاك؟
نقرأ في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: أنّ رحمة زوجة أيوب سألت يوماً قوماً أن يعطوها ما تحمله إلى أيوب من الطعام وكانت حسنة الذوائب، فقالوا لها: أتبيعين ذؤابتك هذه حتّى نُعطيك؟ فقطعتها ودفعتها إليهم ثمّ أخذت منهم الطعام وجاءت به إلى أيوب، فلما رآها مقطوعة الشعر غضب وحلف عليها أن يضربها مائة ضربة، فأخبرته بالسبب فاغتمّ أيوب لذلك وقال: (ربّ، إنّي مسّني الضر)، وذلك بعد أن استجلى حقيقة الموقف، وآلمه تسرعه في عقد يمين لا بُدّ من الوفاء به وهو ضرب هذه الزوجة الوفية التي كانت رحمةً إلهية رائعةً إلى جواره في بلائه العظيم الذي بدأ متسلسلاً بماله، ولد وصحته. ولو لم تكن كذلك لما اهتمّ الباري عزّ وجلّ بإنقاذها من ألم مئة ضربة أقسم على ضربها إياها نبيٌ مخلص من أنبيائه كان في حال من العناء الذي لا يصبر عليه إلاّ أمثاله.
لقد قدّر الباري جلّ وعلا إخلاص رحمة وتفانيها في خدمة أيوب وهو في بلائه الذي صار مادّة خصبة للأساطير، والواقع الثابت هو الذي أشار إليه كتاب الله وذلك في معرض الحديث عن كشف ضره عنه أنّه فقد أمواله التي كان يتنعم بها مع أسرته ومع ذلك بقيت رحمة تشُدّ أزره ثم ابتليت معه بفقد أولادهما، فواست نفسها بوجود زوجها ولكن الطامة الكبرى جاءتها عندما فقد زوجها صحته وبدأ يذوي شيئاً فشيئاً وقد تخلّى عنه جميع من عرفه وبات ويداً مع ثُكله وفجيعته بصمته التي قيل في شأنها أنّه لم يبقَ لدى أيوب عضوٌ سليم إلاّ لسانه يلهج به بذكر الله. وقد طالب مدة بلائه ومضت رحمة تعمل في البيوت خادمة حفاظاً على أيوب في محنته وهي التي كانت سيدة في قصر أبيها وسيدة في حياة زوجها وقصره. لقد ابتلي أيوب بكل شيء إلاّ بإيمانه وعزة نفسه ولا شكّ في أنّه كان يعلم أنّ سرّ بقاء زوجته إلى جواره هو سرّ يكمن في جوهر شخصيتها الفذّة، العظيمة بإيمانها، القوية بثباتها قربه ولا شكّ في أنّه تألّم أشد الألم وأنّه شعر حينها فقط أنّه قد ابتُلي بكبريائه، عندما علِمَ أنّها قصّت ذؤابتها لتأتيه بطعام، فكانت تلك اليمين التي أجمعت المصادر التاريخية والتفسيرية على اعتبارها طبيعية جداً لمن كان في موقع أيوب، في صبره واحتماله.
لذلك ركّز القرآن عليه كمصداق عبادةٍ حقيقية لله في الرخاءِ والشدة، فجاء مقام الحديث مستلزماً للكلام عن أيوب في إخلاصه لله، رغم بلائه الذي يستحقّ أن يُضرب به المثل للذين يؤمنون بالله على شفا حرفٍ أي على قلقٍ وعدم اطمئنان، من اللافت أنّ أيوب قد تقبل البلاء بالحب الإلهي نفسه والطاعة العبادية عينها التي يتقبل سواه بها الرخاء فقد روى المجلسي في بحاره عن ابن عباس: "أن رحمة زوجة أيوب قالت له يوماً: يا أيوب، لو دعوت الله أن يشفيك؟؟" فقال لها: "ويحك يا رحمة، كنّا في النعماء سبعين عاماً، فهلمي نصبر في الضراء مثلها". قال ابن عباس: "فلم يمكث أيوب بعد ذلك إلاّ يسيراً حتّى عوفي".
من هنا نجد أن رحمة استحقت من الله العناية الفائقة التي شملت زوجها الصابر فقد جاءت هذه الآيات من سورة صلى الله عليه وآله وسلم رعايةً لشأنها في موقف صعب عليها وعلى زوجها الذي عايش بشدةٍ صعوبة أن يضربها بعد طول جهادها معه ووقوفها في محنته إلى جانبه، لذلك ضُرِبَ أيوب وزوجته "رحمة" مثلاً حياً لحسن التبعّل المتبادل بين الرجل والمرأة وبقيت رحمة في إخلاصها لزوجها مثلاً قرآنيا تتمثّل به سائر نساء العالمين كلما نُكِبت امرأة بالمال والولد والزوج كما نُكِبت رحمة لتصبر كما صبرت ولتنل من الله...
رعاية الدنيا وحماية الآخرة، فتمثلت رعاية الله لرحمة بأن أمر أيوب بضربها ضربة واحدة خفيفة لطيفة بحزمةٍ من الأثل تقارب المائة غصن كانت هي أيضاً خفيفة لطيفة. ويلطُفُ بنا أن نختم حديثنا عن هذه السيدة البالغة الفضيلة والمجاهدة الجليلة في الحياة ما قاله النويري في نهاية الأرب في فنون الأدب: "بعد أن أطلق أيوب نداءه: "ربّ أنّ مسّني الضر" وذلك بعد أن أحسّ أنّه مبتلى بعزّته وكبريائه وأقسم على ضرب امرأته، أوحى الله إليه: "يا أيوب قد سمعت كلامك وسأجزيك على قدر صبرك. أما رحمة فلأُرضينّها بالجنّة". ونحن إذ نترك رحمة خالدة في جنان لله وريحانة في قرآنه نسأل الله أن يلهمنا شجاعة السيدة رحمة في مواجهتها بلاءاتها المتعدّدة، وإخلاصها لزوجها أيوب الذي ما نال منه البلاء قط، وأن يلهم إنساننا اليوم حُسْنَ تقدير جهود شريكة العمر على مبدأ أيوب الذي صبر في بلائه ولم يشكُ إلاّ حين أحسّ أنّه يؤذي زوجته الصابرة وهي لا تستحقّ إلاّ الشكر، فأحسّ حينها أنّه قد مسّه الضر فأطلق نجواه إلى الله لا ليرحمه فقط في نفسه بل في زوجه رحمةً سلاماً منه ومنّا إليها ومن الله تحية يرتلها القرآن كلما تلاه عابد متفكر على مسمع الدهر.