نسرين إدريس قازان
شهيد الدفاع عن المقدّسات محمّد عبد الكريم زين الدين (أبو علي)
اسم الأمّ: سعدة الخطيب.
محلّ الولادة وتاريخها: مرمل- الهرمل 4/5/1993م.
الوضع الاجتماعيّ: عازب.
رقم السجل: 38.
مكان الاستشهاد وتاريخه: فليطا 19/10/2014م.
ظنّت أمّه في تلك اللحظة أنّ السباحة في نهر العاصي والتعرّض للشمس الحارقة تتسبّبان بمثل هذه الحروق التي تراها على جسد محمّد، الذي كان يجيد كتمان أسرار عمله ببراعة، ويحسن الهدوء في الإجابة عمّا يتعرّض له من إصابات، فداوته ببعض المراهم. وطوال خمسة أيّام، لم يخطُ خطوة خارج عتبة المنزل.
•السرّ المكتوم
كان من عادة محمّد أن يخبر أهله عن بعض مشاويره بصحبة الرفاق، والتي كانت تسبّب له غالباً إصابات في جسده؛ فبعد رحلة نهر العاصي معهم، عاد ذات ليلة بُعَيد منتصف الليل وهو يعرج بسبب دمَّلٍ في قدمه، ما اضطرّه إلى الذهاب يوميّاً إلى المستشفى لتنظيفه من القيح، متحمّلاً عدم قدرته على السير والوجع المستمرّ. وقتذاك لم يعرف الأهل السبب، في المرة الثالثة، ظنّوا أنّ قدمه جُرحت بسبب شيء داس عليه، ولكن ذلك كلّه كان مجرّد قصص، لم يعرفوا الحقيقة إلّا بعد استشهاده؛ فقد كان محمّد دائم الذهاب إلى سوريا، وهناك، استشهد رفيقه "رضا الحرّ" بقذيفة سقطت بالقرب منهما، فيما كان هو يقود الدبابة متقدّماً، فتسبّب اللهب بتلك الحروق. أمّا الدمّل، فكان بسبب وجوده في منطقة موبوءة، أثّرت على جرح قديم كان مصاباً به في قدمه في إحدى المهمّات.
•فمن الذي سيقاتل؟!
في بداية الحرب في سوريا التحق محمّد بهذا الواجب، وقد أخفى مشاركته فيه، ليس خوفاً من عدم تفهّم عائلته لأحقيّة هذا الدفاع، بل حرصاً على سرّيّة تحرّك المجاهدين. ولمّا علمت أمّه، حدّثته بصراحة واسترسال عاطفيّ عن خوفها عليه، فأجابها باختصار: "إذا أنتِ منعتِ أولادك من الذهاب، وغيرك فعلن كذا مع أزواجهنّ، أو إخوتهنّ، فمَن الذي سيقاتل حينها؟!".
•استقبال خاصّ
كان محمّد طفلاً كبير الحجم، ثقيل الوزن، حسن الوجه، وكان كلّما كبر فاض جمال روحه أكثر، ولطالما لفت والديه بتعامله المسؤول والمحبّ والمؤثر، فأرسى في قلبيهما الاطمئنان إلى سندٍ ومتّكأ في الأيّام الصعبة.
بعد عودته من المدرسة، كان يصرّ على انتظار والده لتناول الغداء معه. لقد حمل همّ تعبه، وأوصى إخوته دائماً به، وسعى إلى التخفيف عنه بشتّى الأمور. أمّا أختاه، فكان دائماً يقدّم حاجتَيهما على حاجته، ولا يسمح بأن ينقصهما شيء.
•كنسيم الربيع
تربّى محمّد في بلدة "بياقوت"، وقد أحبّه فيها المسلم والمسيحيّ، لتهذيبه، ودماثة أخلاقه، وخفّته. وكان كنسيم الربيع يمرّ بلطف بين القلوب والنواظر، لا يُثقل على أحد بطلب، ولا يزعج أحداً بصوت، يتقاسم أيّامه مع أخيه عليّ، الذي اتّفق معه على أن يسمّي كلّ واحد منهما ولده على اسم الآخر، عندما يكبران ويتزوّجان.
مع أخيه كان يذهب إلى الكشّافة ابن سبع سنوات، وهناك تفتّح عقله وروحه على عالم اطمأنّت فيه نفسه، فشارك في العديد من النشاطات والمسابقات الثقافيّة والقرآنيّة. ولمّا فاز في عمر الرابعة عشرة برحلة إلى العمرة في مسابقة قرآنيّة، وهبها لأبيه، وسعد كثيراً لأنّه أهداه إيّاها.
•طفل مسؤول
تلقّف محمّد كلّ معلومة ثقافيّة باهتمام كبير، ليوظّفها في بناء شخصيّته، وتعامل مع بعض المستحبّات كأنّها واجبات، وإن كان بعضها ثقيلاً عليه لصغر سنّه. ففي الثانية عشرة من عمره، التزم بالاعتكاف في المسجد لثلاثة أيّام في شهر رمضان المبارك، قائلاً لأمّه إنّه لا يريد أن يفوّت هذه الأمور كي لا يقصّر في عباداته.
شارك محمّد في العديد من الدورات العسكريّة. وعلى الرغم من أنّه كبر وصار شابّاً، إلّا أنّ تعامله مع أهله وإخوته لم يتغيّر. فهو لم يكن يرى لنفسه وجوداً، وكلّ ما سعى إليه هو راحة أهله؛ فإذا طلبت إليه أمّه أن يشتري ثياباً لنفسه، قال لها: "إخوتي أولى"، وإن أعطته مالاً، اشترى له ولهم؛ فهذا دأبه منذ صغره، إذ كان لا يشتري لنفسه شيئاً، بل يتقاسم وعائلته أو رفاقه كلّ ما يملكه.
•عاشقٌ من نوع آخر
كان محمّد يعود من المعارك متعباً ومثقلاً من هول ما يراه. ففي آخر عودة له إلى البيت بعد غياب في المحور، كان طويل الشعر وكثيف اللحية، فاحتضنته أمّه وطلبت إليه أن يشذّب شعره، ويرتّب هندامه، فهو قد أصبح شابّاً، وعريساً جميلاً. وكانت منذ فترة تلاحظُ طول سهره وشروده، فأسرّت إلى زوجها ذلك، معتقدةً أنّ العشق قد سلب النوم من عينَي ابنها، واتّفقا على مصارحته بالموضوع، فإن كانت على حقّ، يبادران إلى طلب يد من أحبّ. وفعلاً، ما إن طلع الصبح وجلست أمّه بالقرب منه حتّى صارحته، فضحكَ طويلاً، ثمّ أجاب بأنّه عاشق من نوع آخر!
قبل أن ينطلق إلى عمله بليلة واحدة، حرص على أن يسهر مع والدَيه، وكأنّها سهرة الوداع. كان حديثه هادئاً ووجهه يفيض بالبشر. وعندما حزم حقيبته ومضى، لم تستطع أمّه إلّا الاتّصال به بشكل متلاحق، فأحسّ بنار قلبها، وأخبرها أنّه سيتّصل بها دوماً ليطمئنها، وأنّه نظّف منزل القرية قائلاً: "صار متل التلج، ما بدّي منّك شي غير إنّك تدعيلي، وإذا إلي عمر راجع لعندك الاثنين"!
•الوصايا الأخيرة
في تلك الليلة، ألقى الضباب وشاحه على أكتاف الليل. سمع محمّد ورفاقه حركة، رصد جهة الصوت، فرأى مجموعة من التكفيريّين تتسلّل ناحيتهم، فألقى بسرعة قنبلة عليهم، وبدأوا الهجوم الذي استطاع فيه قتل 14 تكفيريّاً، ولكنّه فجأة، فقد توازنه وأخبر رفاقه بأنّه أصيب في بطنه، بعد أن استطاع تكفيريّ إصابته تحت درعه، وطلب إليهم عدم القدوم إليه، بل استكمال المعركة.
كان جرحه ساخناً، فلم يشعر بأيّ ألم. ركض رفيقه إليه وسحبه إلى خلف الساتر. قال لرفيقه إنّه سيوصيه بوصيّة، فاستغرب الأخير ذلك، خصوصاً وأنّ إصابته لم تبدُ خطيرة، فأكمل محمّد قائلاً: "أوصيك بوالدَيّ؛ فوالدي رجل عجوز قد لا يتحمّل الخبر، وأمّي، قلبها متعلّق بنا. أوصيك بأختَيَّ وأخي، وأخبر أمّي أنّ كنية محمّد صارت (أبا عليّ)"!