نهى عبد الله
في حرّ الظهيرة، تجمّع أهالي البلدة للمشاركة في تشييع جثمان شيخهم الجليل ودفنه، لكنّ أحد تلاميذه طلب إيقاف الدفن، ريثما يُحضر شيئاً ضروريّاً. تململ الناس، وأخذوا يتساءلون: أيّ شيء سيكون أهمّ من إكرام الشيخ ودفنه؟ حتّى ظهر أخيراً التلميذ، حاملاً بيده شيئاً مغطّىً بقطعة قماش، وناوله لشخص آخر، وأخذ ينتقل من يدٍ إلى أخرى عبر الجموع ليصل إلى الشخص الذي يتولّى الدفن. عندها تقدّم ابن الشيخ ليرى ما هو الشيء الذي أخّر الدفن، ليتبين أنّه قطعة من القماش، كانت مألوفةً لديه، فتوجّه حيث يقف التلميذ وفي رأسه رزمة أسئلة. وبينما كان يسير، تداعت إلى ذاكرته صورٌ من طفولته وشبابه، حين كانت تمرّ على والده الجليل أيّام قاسية. تذكّر تلك اللحظات التي لطالما راقب فيها أباه يدخل غرفته الخاصّة، ويفتح صندوقاً قديماً فيه بعض الآثار والذكريات، ويخرج شيئاً ملفوفاً بمنديل، يشمه ويلثمه ويضعه على وجهه، ويأخذ بالبكاء حتى يرتاح قلبه، ويفضي بكلّ حنينه.. ثمّ يقبّل ذلك الشيء ويودعه مكانه في الصندوق.. في تلك اللحظة، تذكّر الابن ذلك الشيء، كان حذاء جدتّه، آخر آثارها، والذي لطالما حدّثهم والدهم أنّها علّمته الصبر والقناعة، حين كانت تتأبّط حذاءها أثناء ترحالهم أيّام "المجاعة القاسية"؛ لأنّها لا تملك غيره.
وصل إلى حيث التلميذ وأومأ إليه يسأله لمَ أحضره، فأجابه أنّ والده أوصى أن يدفن معه حذاء والدته، ليكون خاتمة عمله في الدنيا، حذاء مَن الجنّة تحت قدميها.. حرزاً تحت رأسه في قبره.
(*) قصّة حقيقيّة عن الشيخ الخطيب عبّاس قاسم شرف رحمه الله.