د. علي الطقش(*)
قدّم خطّ المقاومة، كرادع لنهج الهيمنة، تجاربه المتنوّعة التي أعادت تشكيل ساحة الصراع ونقلتها إلى أبعاد متفاوتة. في البداية، كانت الصحافة والإذاعة والتلفاز الأرضيّ ومن ثمّ التلفاز الفضائيّ، ساحة للمواجهة بين المقاومة وأعدائها بأشكالها المتفاوتة؛ فاحتدم الصراع التقنيّ والبشريّ الذي شهد استهدافات متتابعة لأجهزة البثّ، كما تعزّز استهداف طواقم العمل التي أدارت ونفّذت عمليّة المواجهة الميدانيّة بهدف تثبيت العلاقة مع الجمهورَين العربيّ والمسلم المعنيّين بساحة الصّراع. ومع الانتقال بشكلٍ متسارع نحو الفضاءات الرقميّة، تغيّرت الأدوات ولم تتغيّر معادلات الصّراع ومستوى الهجمات والهجمات المضادّة.
من هنا، تعزّز مفهوم الإعلام المقاوم كوسيلة أساسيّة للترويج لثقافة المقاومة، ومواجهة الإعلام المضلّل. فما هو الإعلام المقاوم؟ وما هي معوّقات تطوّره؟ وما هي الأسباب التي تدعو إلى إيلائه الاهتمام الشديد؟
• أوّلاً: إعلام ثقافة المقاومة: صناعة المفهوم
إنّ نضوج التجربة، وتمكّن مختلف أطياف المقاومة من تثبيت ساحتها (بنسب متفاوتة)، دفعنا نحو السّعي لتأطير التعريف المفاهيميّ (خارج إطار البحث الاصطلاحيّ) للإعلام المقاوم، متوازياً مع إعلام المقاومة. إذا كان "إعلام المقاومة" يمثّل شبكة المؤسّسات (التنظيميّة والفرديّة)؛ أي الوسائل الإعلاميّة المكتوبة والمسموعة والمرئيّة والرقميّة، فما هو مصداق "الإعلام المقاوم"؟
يمكن تعريف "الإعلام المقاوم" بأنّه: مجموع الدّراسات والممارسات الإعلاميّة الهادفة لنشر ثقافة المقاومة على المستويَين الفرديّ والجمعيّ، عبر خلق أو تعديل أو تثبيت الواقع في مواجهة واقعَي الاحتلال والهيمنة. وقد انطلقنا في التعريف من قاعدتين هما: الدراسات البحثيّة والإنتاجات الإعلاميّة لتحديد مساحات ثلاثاً للإعلام المقاوم: الحيّز البحثيّ، الحيّز الإنتاجيّ، وأخيراً الحيّز الزمانيّ- الجغرافيّ (الزمكانيّ).
•ثانياً: معوّقات التطوّر
متعدّدة هي المعوّقات التي منعت تطوير مفهوم الإعلام المقاوم. وهنا نسلّط الضوء على معوّقين اثنَين:
1- المعوّق الأوّل: هو الخلط بين الواقع الثقافيّ والواقع الجغرافيّ للعمل الإعلاميّ المقاوم. هذا المعوّق ذو منشأ بنيويّ، وهو مرتبط بأصحاب القرار والعاملين في ساحات المواجهة الإعلاميّة. وإنّ فهم المقاومة على أنّها ردّ فعل ظرفيّ ينتهي بانتهاء فعلَيّ الاحتلال والهيمنة، انعكس على الأداءَين البحثيّ والإنتاجيّ للمؤسّسات (والأفراد) الإعلاميّة والأكاديميّة، فهل التحرير العسكريّ لمساحة جغرافيّة اقترن على المستوى الإعلاميّ بمقاربة مشابهة؟ أي هل انسحب العمل المقاوم على المستوى الإعلاميّ من خلال مقاربات محدّدة واستراتيجيّات مدروسة علميّاً؟ وعلى الضفّة الأخرى، هل انتهى أو تضاءل ضخّ الموادّ الإعلاميّة- الثقافيّة المتدفّق باتّجاه مجتمعات المقاومة، في حين أنّ المساحة التي ينشط الإعلام المهيمن على احتلالها هي الوعي، ولا يزول الغزو الثقافيّ بالضرورة بزوال الاحتلال الجغرافيّ (وهنا الأمثلة كثيرة)؟
لقد انعكست الممارسات البحثيّة والإنتاجيّة التي كرّست تلازم مؤشّري ثقافة المقاومة والفعل العسكريّ للمقاومة لدى الرّأي العام، فبدَا وكأنّ الثقافة تتعزّز مع تعزّز الفعل العسكريّ، وقد تتراجع مع تراجعه. على سبيل المثال: يتجلّى هذا التلازم (وهو تلازم مهنيّ متوافق مع نظريّة وضع الأجندة وترتيب الأولويّات)(1) في كلّ من أيّام تحرير جنوب لبنان عام 2000م، والحرب على العراق عام 2003م، وحرب تمّوز 2006م، والحروب المتعاقبة على غزّة، والحرب على سوريا، والهجوم التكفيريّ على لبنان، في الوقت الذي شهد فيه الهجوم الإعلاميّ على ساحات المقاومة تنوّعاً في الأدوات وتعديلات طفيفة في الأجندة. وقد انعكس هذا المسار على الخطاب العامّ في الكثير من التجلّيات الإخباريّة والفنّية (على المستويات البصريّة والصوتيّة والنصّيّة).
2- المعوّق الثاني: تقنيّ، يرتبط بالتّسارع التّكنولوجيّ، فدخول مواقع التّواصل الاجتماعيّ وتشكيل السّاحات الافتراضيّة على مضمار الإعلام والاتّصال، وضع "إعلام المقاومة" أمام تحدٍّ جديد، وأولويّة تحتّم الانتقال من مساحة عمل الأجندة نحو عمليّة الإنتاج، خصوصاً أنّ الإنتاج في هذه المساحات المفتوحة قد شكّل تحدّياً أمام كلّ الأنواع الصّحفية، ومنها الإعلام المتخصّص، كالصحّيّ والبيئيّ والتربويّ. هذه الأنواع كلّها باتت في مواجهة مفتوحة مع التّسطيح الثقافيّ والأخبار الزّائفة. و"الإعلام المقاوم"، على نضارة تجربته، بات أمام معضلة مركّبة؛ مواجهة التسطيح والأخبار الزائفة، وأيضاً مواجهة سياسات المنصّات (منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ بشكلٍ خاصّ) التي تعتمد قوانين نشر (خوارزميّات(2) تحدّ من الانتشار والتأثير، فانصبّ جزء من الجهد على مواكبة التحديث ومواجهة التضليل والإعلام المهيمن. وعوَضَ أن ينصبّ الجهد على إنضاج تجربة "الإعلام المقاوم"، بات جزءٌ من التوجّه نحو تطوير الأدوات كحلقة مفرغة مع كلّ تحديث تقنيّ أو تطوّر تكنولوجيّ.
•ثالثاً: الإعلام المقاوم: حاجة بحثيّة
إنّ إخراج "الإعلام المقاوم" من دائرة ردّ الفعل الميدانيّ أو الفعل العسكريّ المضادّ، يُلزم المؤسّسات البحثيّة والأكاديميّة بالتعرّف على ديناميكيّات الصّراع الإعلاميّ، لثلاثة أسباب:
1- أهمّيّة معرفة أسباب الهجمات الإعلاميّة ونتائجها: إنّ دراسة تفاعلات ساحات الصراع الإعلاميّة بين قوى الهيمنة والاحتلال من جهة، وقوى المقاومة من جهة ثانية، هي حاجة مجتمعيّة بحتة؛ فكما يدرس الباحثون الإعلاميّون مختلف العناوين المرتبطة بالإعلام السياسيّ والصحّيّ والتربويّ، فهم أيضاً مدعوون إلى تفكيك ديناميكيّات الإعلام المقاوم، على مستوى الأثر والفعاليّة والكفاءة، لما لذلك من أثر مجتمعيّ في حال طُبّقت نتائج دراساتهم العلميّة على المستوى المهنيّ العمليّ.
إنّ دراسة الإعلام المقاوم هي دراسة لحركة المواجهة الإعلاميّة في إحدى أسخن مساحات العمل الإعلاميّ، على وجه الأرض، وعبر التاريخ. وإنّ زيادة المعرفة بحجم الهجمة وتداعياتها قد تقودنا إلى معرفة أسباب الكثير من المشاكل المجتمعيّة والفرديّة، سواء النفسيّة أو السلوكيّة أو حتّى الجسديّة. فمن قال مثلاً إنّ القنابل العنقوديّة تترك خلفها مئات الشهداء والجرحى، ولا تترك الحرب الإعلاميّة أثراً في واقعنا في الجوانب الاجتماعيّة والثقافيّة والصحيّة والماليّة، بل حتّى الاستهلاكيّة؟
2- تقديم طروحات إعلاميّة تلائم المواجهة والجماهير: إنّ قوى الهيمنة والاحتلال في الهجوم واحدة، وساحات الإعلام المقاوِمة متنوّعة، إن لناحية الجماهير المستهدفة أو لناحية الفاعلين في العمل والخطاب الإعلاميّ وأساليبهما. إنّ تنوّع ساحات المقاومة هو نقطة قوّة بالنسبة إليها، ويضع أعداءها أمام صعوبات شتّى في الخطاب الإعلاميّ المواجه، غير أنّ المؤسّسات البحثيّة مدعوّة إلى تقديم طروحات علميّة قابلة للتنفيذ من خلال استراتيجيّات وبرامج إعلاميّة وفنّيّة وثقافيّة مشتركة في مواجهة الهجمة. على سبيل المثال: إنّ قانون قيصر هو جزء من الحرب المستمرّة على المقاومة، وإن كان ظاهر هذه الحرب اقتصاديّاً وموجّهاً نحو سوريا، إلّا أنّ هذا القانون يشتمل على جانب إعلاميّ يهدف إلى تجزئة خطاب ساحات المقاومة المتعدّدة. وهناك فارق بين تنوّع ساحات المقاومة -الذي هو في الأساس عامل إيجابيّ لناحية صعوبة الوصول إلى المجتمعات المستهدفة وتغيير اتّجاهاتها- وإحداث تغيير في خطابها؛ لأنّ هذا التغيير يصبّ في صالح صانعيه والسّاعين إلى إحداثه، ويتحتّم لمواجهته تحديد الإطار الإنتاجيّ المواجه الملائم في مواجهة كهذه، على أن يكون بحجم الهجمة ومن تركيبتها نفسها؛ إذ إنّ المواجهة الإعلاميّة الإقليميّة تحتّم تجاوباً إعلاميّاً إقليميّاً.
3- العمل على بناء وعي إعلاميّ مشترك: صحيح أنّ الهجمة واحدة، غير أنّ أثرها في الساحة الفلسطينيّة مختلف عن أثرها في الساحة الإيرانيّة أو اللبنانيّة أو اليمنيّة وغيرها. وإنّ الإعلام المقاوم كأداة تثقيفيّة أساسيّة، قد يُطرح كإطار بنائيّ لكلّ من الإعلام الحربيّ والحرب النفسيّة والدعاية السياسيّة والمقاومة الثقافيّة.
•رابعاً: ما بعد الإعلام المقاوم
في الختام، ينبغي التأكيد على مسألتين، أوّلاً: إنّ الإعلام المقاوم آخذٌ في التّشكّل ضمن ساحات المقاومة كنوع من الأنواع الصحفيّة التثقيفيّة، له روّاده وملامحه الخطابيّة، ودعوتنا هنا ليكون له منتجوه وعلماؤه، بهدف تسريع عمليّة تشكّله كمفهوم واضح وفعّال. وبعد أن دخل المصطلح حيّز الاستخدام، فإنّ مصداق نموذج "الإعلام المقاوم" هو اتّجاه حاصلٌ وحاجة لكلّ منتِج وباحث ومتابع. ثانياً: وللتأكيد على ذلك، كيف لإعلام الاحتلال والهيمنة (وهو أفعل سلاح إعلاميّ عابر للمساحات الجغرافيّة عبر التاريخ) أن يعجز في ساحة من السّاحات الإعلاميّة عن تحقيق ما يحقّقه في أيّ ساحة أخرى حول العالم؟ إنّ من يتابع الإعلام المهيمن من حيث الحجم والإمكانيّات البشريّة والماليّة، وفعاليّته في العمل وكفاءته في الإنتاج الإعلاميّ، وسرعة تجاوبه مع الأزمات الخَبَريّة والتّكنولوجيّة، يدرك أنّ "الإعلام المقاوم" بات طرحاً أمضى من أن نغفل عنه. يستحقّ منّا "الإعلام المقاوم" أن نبلوره نهجاً، ونعزّزه ثقافةً، ونستفيد منه في كلّ ميادين مواجهاتنا الثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والتنموّية.
(*) باحث في علوم الإعلام والاتصال، عميد كلّيّة الإعلام والفنون في جامعة المعارف.
1.هي نظريّة تفترض ترتيب الأولويّات ووجود علاقة بين القضايا التي توليها وسائل الإعلام مزيداً من الاهتمام وبين تزايد اهتمام الجماهير بتلك القضايا.
2.الخوارزميّات: سلسلة من الخطوات الرياضيّة المحدّدة، تُعتمد لتنفيذ صيغة إجراءات أو أوامر.