لقاء مع الجريح المجاهد بلال كاظم الزين (مجاهد)
حنان الموسويّ
تشريكة الألغام تلك لم ترحمْ ضعفَ لحمِ مَن وقعوا فيها ولا رقّة جِلدهم. كان القائد حسين عاصي وأفراد مجموعته قد وضعوا نصب أعينهم هدفاً وتقدّموا لتحقيقه. طبيعة الأرض والدراسات الطويلة قُلِبتْ رأساً على عقب، فاحترف القوم الغوص في لجج الدماء، بعد ولوجهم تلك النقطة. غابة الأذى أسفرت عن أجسامٍ فقدت بعض ما ملكت، وسيلٌ من القاني صبغ الرمال!
بقي ملاك
ملح الوقت علِق في أفواه المجاهدين. جهّزوا خطّة لسحب الجرحى، وباشروا. مرّت لحظاتٌ مُرّة، تدلّى عنق السماء ليساعد في سحب الأجساد؛ جريحٌ واثنان حتّى آخر مَن تناثر جسده، بقي ملاك! تراكمات الكتمان بأليم الوقع تفجّرت، حملته سواعد الأبطال. عبروا به الساتر وأدخلوه المنزل الذي كنّا فيه. وضعتُ الكاميرا جانباً واقتربتُ أروم المساعدة، حملته معهم. نظرتُ وكأنّ صخرةً ربضت على صدري، وهَن عزمي، ما عدت أقوى على حملِ ثِقلي، فكيف بهامةِ قائدٍ فقد نصفه السفليّ؟!
مشوار العمل..
نعمة الصوت الجميل كانت السبيل، وقراءة دعاء كميل واللطميّات في المسجد هي البداية. قبل الانضمام إلى كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف كقائد، التعبئة التربويّة والعمل التحضيريّ مهّدا للعمل الميدانيّ، كإحياء المناسبات الدينيّة، وحواجز الدعم، مضافاً إلى مساعدة الناس في حرب 1993م إلى جانب الإخوان.
حزت شهادة البكالوريا الفنيّة، بعدها دخلت الجامعة. في مطلع عام 2002م، تقدّمت بطلبٍ للعمل في قناة المنار، وخلال فترة وجيزة جاء الردّ بالقبول.
خلال سنة واحدة صرت مخرجاً للأخبار، عملت أيضاً في الدوبلاج والتجارب الصوتيّة. انضممت لاحقاً إلى فريق عمل قناة الكوثر الفضائيّة كمراسل. بعدها عملت في قناة "فلسطين اليوم" كرئيس قسم، إلى أن صرت مُقدّماً في قناة الاتّحاد، وبعدها في قناة المنار.
مهمّة في الزبدانيّ
الموعد هذه المرّة في الثامن من أيلول 2015م. مهمّتي كإعلامٍ حربيّ في منطقة الزبدانيّ، اصطياد المواقف والصور لتخليدها. هدفي كان توثيق الصورة واللحظة وإحياء الحدث. أمّا الأسمى، فأن أحمي نفسي وأراعي متى أفتح باب كاميرتي الشّرِه، ومتى أغلقه بالتنسيق مع الإخوان.
وجه الزبدانيّ كان حارّاً، والعمل فيها ذلك الحين كان صعباً حدَّ الرعب. القصف وصل ذروته؛ هجومٌ ودفاعٌ وتطهيرٌ واقتحام. ولأنَّ الهدف هو الله، وما دونه وهمٌ وسرابٌ، ذلك كلّه كان جميلاً.
كلمة السرّ
"زينب عليها السلام " كلمة السرّ. كانت المهمّة تغطية هجومٍ سينفّذه قائد السريّة الحاج حسين. تجهّزنا سريعاً وانطلقنا. سرعان ما أذِنَ شتاء النار بالهطول. وقع الحاجّ ملاك وأفراد مجموعته في تشريكة ألغام. كانت الأخيرة كفيلةً بأن توزّع الأجساد وأبناءها عن بعضها بعضاً؛ هنا يدٌ، وهناك عينٌ، وهنالك أقدام. لم يكن الوقع ليّناً على قلوب باقي المجاهدين. التفّ الجميع حول هدفٍ واحد: سحب الجرحى مهما كلّف الأمر من وقتٍ وعِتاد. ضلّت على شفتَيَّ الكلمات، حين ركّزوا الحمّالة التي احتوت ملاك قربي. ربّتتُ على ظهره قليلاً ليحافظ على وعيه منادياً باسمه. وبينما كنّا نرفعه، أصابني الذهول حين رأيت ذاك القدّيس مبتور القدمين. لُذتُ بصمتٍ مريبٍ يحدوه الشرود.
الصورة الأخيرة
لحظات وجاء القرار بمتابعة العمل. فتحنا ثغرةً في مكانٍ جديدٍ، وبدأنا التطهير. كنت أصوّر الشبّان وألتقط روحيّة الطهارة مع حبّات العرق المتدلّية على وجوههم، في مشاهد سيخلّدها التاريخ.
صوت الصفير طغى على أذنيَّ. أثناء عودتي بعد إتمام المهمّة، وحين شارف الليل أن يُسدل أهدابه، التقيت بمجاهدَين سوريَّين، استفسرا عن مكان الإخوان. رفعت الكاميرا، التقطت صورة كانت الأخيرة لهما، وبينما هممت بإرجاعها إلى الحقيبة، إذ بقذيفة هاون تحوّل الشابَّين قربي إلى أشلاء، واختارت من معدتي وفخذي الأيسر مكانَين لشظاياها استقرّت فيهما.
نشيد الألم
هرع المجاهدون لسحبي. وُضِعتُ على الحمّالة ونُقِلت في سيارة رباعيّة الدفع إلى مشفى أمير الميدانيّ. دندنت نشيداً من أنين الألم طوال الوقت، بعدها فقدت وعيي. أخرج الأطبّاء كلّ ما يحتويه بطني وطهّروا جوفي. استأصلوا قسماً من الأمعاء، وضمّدوا مكان النزف في معدتي. أمّا فخذَايَ، فلم يقربوا منهما سوى بالتطهير والتضميد البسيط، حتّى وصلت إلى مستشفى بهمن في بيروت، حيث خضعت لجراحة من جديد لمعدتي، وجراحة لفخذَيّ. استعدت وعيي بعد أيّامٍ ثلاثة حين زال الخطر. دام مكوثي في المستشفى نحو عشرين يوماً.
وجعٌ وصبر
ترسّب في القلب وجعٌ وصبر. جراحاتٌ سبعةٌ دمغت جسدي، شربت مرارة آلامها بسعادة. سنةٌ من عمري مرّت طريح الفراش. حملت وحدتي وحدي على الرغم من اكتظاظ الجمع قربي. قافلة الحنين إلى العمل زارتني كلّ يومٍ، ما زاد من علقم الجزع الذي جرّعته غربتي. الضرر الذي لحق بجدار معدتي ما زال صديق الليالي الحميم، وهرَمُ عصب السياتك في قدمي، حرمني المشي الطويل والركض وحمل الأشياء الثقيلة. شغفي المخلوق من عطشٍ لجهاد الصورةِ بدّده ذلك التلف. لا أفكّر إلّا بقدر احتراقي للعودة إلى سوح القتال والتحرّر ولو لأيّام. ذاك الأمس الهارب سيعود، كما عادت إليّ الحياة حين مارست عملي من جديد.
عاد عليّ
وقْعُ خبر إصابتي لم يكن سهلاً على قلوب أفراد عائلتي مطلقاً، خاصّةً أنّي نُعيت شهيداً على وسائل التواصل. انحنت أميّ على جسدي في غرفة العناية وبكت طويلاً. صارت تمسّد الوقت ليعود "عَلِيُّها" كما تدعوني، وأعادني ربّي إكراماً لها. أمّا أبي، فقد جفّ الحزن في جسده كما الدموع. حدس زوجتي لم يخطئ بعد الرؤيا التي شاهدتها، عرفت أنّ أمراً سيطالني. أمسكت يدي وسألتني إن كنت سأعود. شددت على يدها بكامل ضعفي، فابتسمت. أطفالي الثلاثة يفخرون بجراحي، يدركون معنى كلمة جريح، ويعيشون معاناته كلّ يوم.
عطاء ونعمة
أقول للأمين على الدماء: نحن جميعاً فداءٌ لك. للجرحى رسالةٌ يجب أن تستمرّ، تتجسّد في خدمتهم للناس وصبرهم على جراحهم التي لم تهزمهم. تلك الندوب هي نعمةٌ من اللّه وعطاءٌ فيه كلّ الخير.
الجريح صلة الوصل بين اللّه والناس، شهيد حيٌّ شاهد، وحجّة على العالمين، يقدّم صورة الإنسان الفاني لا الباقي. جراحه تشدّ الحروف لفهمٍ أعمق لعبارة "لبيكِ يا زينب"، وللإحساس المفعم بجروح أبي الفضل عليه السلام. أدعو اللّه بحسن العاقبة، وأن يثبّتنا على هذا النهج.
هوية الجريح
الاسم: بلال كاظم الزين.
الاسم الجهاديّ: مجاهد.
تاريخ الولادة: 11/11/1979م.
مكان الإصابة وتاريخها: الزبداني 14/9/2015م.
نوع الإصابة: في المعدة والفخذ اليسرى.