تحدثنا في الحلقة الماضية عن بعض المسائل الأولية التي ينبغي للمحلّل السياسي- وكل من يهتم بالشأن السياسي- الاطلاع عليها. وقد ذكرنا أن السياسة في الإسلام هي عين الدين ولا يمكن الفصل بين الدين والسياسة أو بين الأخلاق والسياسة.
كما أوردنا أن السياسة بذاتها علم وليست فناً، لكن يمكن اعتبار التطبيق العملي للأصول العلمية في السياسة فناً.
كما تبين لنا أن المسلم المكلّف يجب عليه أن يأخذ أحكامه السياسية من الولي الفقيه كسائر الأحكام العبادية والمعاملاتية.
في هذه الحلقة نختم المسائل الأولية للسياسة بالحديث عن موضوع السياسة.
* موضوع السياسة
اختلف علماء السياسة في تحديد موضوع السياسة.
فاعتبر بعضهم أن "الدولة" هي موضوع السياسة، بينما مال بعض آخر إلى اعتبار "القدرة" واعتبره آخرون خصوص "القدرة السياسية".
أ- الدولة:
ينقل الأستاذ عبد الحميد أبو الحمد في كتابه "التعرف على علم السياسة" عن كار لنون كلايمر رودي قوله: "علم السياسة عبارة عن معرفة أحوال الدولة في جميع مؤسساتها المختلفة".
ويعتبر رولد لاسكي في كتاب "مقدمة في السياسة" أن موضوع السياسة هو دراسة المؤسسات الرسمية للبلد والدولة.
إن القول بأن علم السياسة هو علم الدولة قديم جداً. فمنذ العصر اليوناني حتى يومنا هذا، كانت الدولة محور الأبحاث السياسية. وقد اعتبر أرسطو أن السياسة هي حكم المدينة: أي الدولة أو المجتمع السياسي الذي يضم المجتمعات الأخرى.
وهكذا فقد ارتكز علم السياسة بأنه علم الدولة على أساس أن الظاهرة السياسية تنشأ من العلاقات الاجتماعية التي تتبلور في المؤسسات، والدولة هي مؤسسة المؤسسات، وهي الشكل الأهم والأبرز والأكمل للحياة الجماعية. على حد تعبير مارسيل بريلو.
وإذا كان موضوع علم السياسة هو الدولة فلا بد من البحث في مفهوم الدولة. والحقيقة أن هناك مفاهيم عدة للدولة، فأرسطو يعتبرها النموذج الاجتماعي الأرفع للبشر. وهي عند كل تحقق المثال الأخلاقي. ويرى ماركس أن الدولة عبارة عن تسلط طبقة من الناس على طبقة أخرى.
ويعتبر هارولد لاسكي أن الدولة "نظام من الأوامر (القانونية) تستند إلى القوة والقدرة". وهي المرجع الاجتماعي الأعلى فوق كل الجماعات البشرية المتواجدة في إطارها. أما ماكس وبر عالم الاجتماع الألماني فيرى أن الدولة مؤسسة اجتماعية لديها أعضاء وأعمال ممارسة للقهر والإكراه.
ويعتبر جان بودن أن الدولة مركب مؤلف من مجموعة من العائلات والجماعات، إلا أن وجه تمايز الدولة عن سائر الاجتماعات الإنسانية هو السيادة.
ونخلص للقول أنه يمكن اعتبار الدولة في التعريف القانوني أنها "مجموعة كبيرة من الأفراد يعيشون في أرض معينة ويخضعون لسلطة عامة نابعة منهم ولديهم شخصية قانونية في الحقوق العامة".
أما التعريف السياسي للدولة فهو "صناعة قدرة تكتسب حق السلطة على شعب معين ضمن حدود جغرافية معينة وتضطلع هذه السلطة بمهمة الحفاظ على الأمن والنظام الداخلي وحراسة حدود الوطن ومصالح الشعب من أعداء الخارج. وتكون صناعة القدرة هذه على كل مؤسسات إدارية وسياسية وقضائية وعسكرية".
على كل حال، فإن عناصر الدولة الأساسية (أو أركانها)- كما يراها البعض- هي: الأرض، الشعب، السيادة.
ويضيف البعض عنصراً رابعاً وهو الحكومة أو "السلطة السياسية".
1- الأرض (أو الإقليم)
"الأرض، الإقليم عبارة عن تلك القطعة من الكرة الأرضية التي لها حدود معينة وتخص دولة معينة بين شعوب العالم. ويشمل الإقليم التراب الوطني والمياه الإقليمية والمجال الجوي".
لا شك أن الإقليم الذي تقوم عليه الدولة يلعب دوراً أساسياً بالنسبة لممارسة السلطة السياسية. فالشعور بالانتماء إلى وطن ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأرض فبها تقوى الروابط بين أفراد الجماعة وتنمو العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيما بينهم حتى تتحول هذه الجماعة إلى أمة، لها تقاليد وعادات ونمط عيش وثقافة مميزة، أي لها هوية محددة. ويمكن اعتبار أن البلد حقيقة هو "تآلف أرضي".
2- الشعب (أو الجماعة البشرية)
تفترض الدولة، بصفتها مجتمعاً سياسياً منظماً، وجود جماعة بشرية أو شعب على البقعة الجغرافية التي تمتد عليها فأرض لا يعيش عليها شعب، لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تكون دولة مهما اتسعت مساحتها. كما أن عدد أفراد هذه الجماعة البشرية يشكل عاملاً رئيسياً في تحديد القدرة السياسية لهذه الدولة. ففي قارة القطب الجنوبي، حيث لا يتواجد الناس هناك ولا يقطنون بشكل دائم فإنها حتى الآن لم تُحسب بلداً سياسياً كغيرها من بلدان العالم.
ومن الأبحاث المهمة في الجغرافيا السياسية دراسة خصائص الجماعة البشرية التي تؤلف شعب الدولة ومدى تجانسها فيما بينها وتماسكها، وعدد أفراد هذا الشعب وكيفية انتشارهم وتوزعهم على مختلف أراضي الدولة وشروط المواطنية والانتساب إلى هذا الشعب، والصناعة الوطنية التي هي معيار النمو والتطور وغيرها من العوامل المساعدة في اكتشاف قدرة هذا الشعب وقوته.
على كل حال، الشعب هو جماعة من الناس يشعرون بشكل عميق بإرادة العيش المشترك وتتجسد هذه الإرادة في كيان حقوقي وسياسي هو الدولة ولا يلزم أن يكون جميع أفراد هذا الشعب ينتمون إلى عرق واحد أو يتكلمون لغة واحدة أن يدينون بدين واحد.
3- السيادة
إن الدولة ذات السيادة هي التي لا تخضع لأية سلطة أخرى. لا داخل الدولة ولا على الصعيد الدولي فهي تمتلك- في الداخل- القدرة على القيادة وإلزام الأفراد والجماعات على طاعتها وإن لزم الأمر بالقوة. أما على صعيد الخارج، فلا يمكن لأية دولة أو منظمة دولية أن تفرض إرادتها على الدولة السيدة، فالدولة لا تستمد سلطتها من خارج حدودها. ولا تعلوها أية سلطة ولها وحدها القدرة على تعيين صلاحياتها بحرية، ووضع حدود لهذه الصلاحيات وفق مصلحتها وإرادتها.
على أن السيادة لا تعني أن للدولة حق العمل بما تشاء مطلقاً، دون الأخذ بعين الاعتبار حقوق المواطنين الطبيعية وتطلعات الفئات الاجتماعية والسياسية المختلفة فالاعتبار الملحوظ في السيادة هو حاجة الدولة لحفظ النظام داخل المجتمع ومنع تدخل القوى الخارجية في شؤونها الداخلية. ومن هنا كانت السيادة بمنزلة الإسمنت التي يربط ويوحّد ويعطي تماسكاً قوياً وصلباً لجميع أعضاء الدولة وأجزائها فتشكل جسداً واحداً.
4- السلطة السياسية
السلطة السياسية أو الحكومة عبارة عن "مجموعة من الهيئات الاجتماعية التي تعمل على تأمين الروابط بين طبقات المجتمع وحفظ النظام فيه". بتعبير آخر "الحكومة هي الهيئة التي تمتلك المؤسسات والتشكيلات السياسية، مثل السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية التي تعتبر من أهم عناصر وأعمدة مؤسسات الدولة، وتتجلى سيادة الدولة وسلطتها بواسطة هذه المؤسسات. فقد يطلق على خصوص القوة التنفيذية الحكومة أيضاً كما هو رائج حديثاً".
إن الحكومة مؤسسة ضرورية لا غنى عنها لوجود الدولة واستمرارها وتنفيذ أهدافها وسياساتها حتى أن الكثير من خبراء علم السياسة يعتبرون أن الدولة والحكومة كلمتان مترادفتان.
ب- القدرة
يعتبر الكثير من علماء السياسة أن موضوع السياسة هو القدرة، وأن تعريف علم السياسة بأنه علم القدرة عملي أكثر منه بأنه علم الدولة. لأنه يسمح لإمكانية دراسة طبيعة القدرة في الدولة دراسة علمية وذلك بالمقارنة مع القدرة في الجماعات البشرية الأخرى. كما أن تعريف السياسة بأنه علم الدولة يخرج من المباحث السياسية إلى دراسة وتحليل الفرق الاجتماعية والمؤسسات السياسية وأمثالها.
يقول هارولد لاسول أحد العلماء البارزين في علم العلوم السياسية المعاصرة: "علم السياسة هو عبارة عن دراسة كيفية تشكيل القدرة: والعمل السياسي هو العمل المنجز على أساس القدرة".
كذلك يؤكد جورج فيدل أستاذ الحقوق في جامعة باريس: "وإذا أردنا أن نعرف السياسة باختصار، فعلم السياسة هو علم القدرة. وموضوع هذا العلم هو الظواهر التي تنبع من القدرة أي الظواهر التي تظهر في مجتمع على شكل أوامر إلزامية".
ويؤخذ على تعريف علم السياسة بأنه علم القدرة أنه يتحول إلى مجرد علم باحث عن القوانين التي تحكم الصراع على القدرة، وهي ليست هدفاً قائماً بذاته (في كثير من الأحيان) وإنما وسيلة لتحقيق أهداف أخرى. فحصر علم السياسة في علم القدرة يهمل أوجه أخرى أساسية في الحياة السياسية. كما أن شمولية مفهوم القدرة قد تقود إلى اندماج علم السياسة بعلم الاجتماع حين تصبح القدرة بمفهومها الشامل مسألة من مسائل علم الاجتماع.
ج- القدرة السياسية
بسبب محدودية "الدولة" كموضوع لعلم السياسة وعدم محدودية "القدرة" كموضوع بحيث قد ندمجه بعلم الاجتماع، فقد رأى بعض المفكرين السياسيين أن أفضل موضوع لعلم السياسة هو "القدرة السياسية".
وأهم المنادين بذلك هو بوريكو، حيث يعتقد أن علم السياسة هو علم القدرة السياسية في المجتمعات الكاملة، والقدرة السياسية هي القدرة التي يخضع لها الجميع في مجتمع متكامل. إذاً لتمييز القدرة السياسية عن غيرها من أنواع القدرة يذكر ضابطتين أساسيتين.
الأولى وجود مجتمع متكامل، والثانية أن القوة هي آخر وسيلة لإجبار الآخرين على إطاعة هذه القدرة.
خلاصة
يُلحظ مما ذكرنا أنه لا يوجد اتفاق نظري في أن موضوع السياسة هو الدولة أم القدرة أم القدرة السياسية.
ويمكن القول أن معظم المحققين السياسيين تقريباً- باستثناء موريس دريفرجيه الذي يرى أن القدرة والقدرة السياسية توأمان من منظور السياسة- يرون أن موضوع علم السياسة هو إما الدولة أو القدرة أو القدرة السياسية رغم عدم وجود اختلاف معتد به بين القائلين بموضوعية الدولة أو موضوعية القدرة السياسية.
على كل حال فالاختلافات ناشئة من إيحاءات المفاهيم التي يطلقها أرباب السياسة حيث يعتبرها البعض علم القدرة والبعض الآخر علم إدارة البلد.
من هنا، فإنه لم يخطئ أحد منهم في تشخيص الموضوع على أساس مبناه. لكن الكلام في صحة وخطأ المباني والأسس التي ذكروها. مثلاً الذين يعتبرون أن موضوع علم السياسة هو القدرة ملتزمون باعتبار التوالي الفاسدة لهذا المبنى لأن القدرة بمعناها العام تشمل القدرة السياسية، العسكرية، الاقتصادية، الإدارية، الثقافية، الإعلامية والدينية أيضاً. فبناء على القول بأن موضوع علم السياسة هو القدرة، تصبح السياسة شاملة لعلوم كثيرة.
من جهة أخرى، فإن القول بأن موضوع علم السياسة هو الدولة موجب لخروج الكثير من المسائل السياسية من هذا العلم وبالتالي يضيق هذا العلم فلا يشمل كل مسائله. لهذا فإنه من المنطقي أن نقول أن كل الذين عرفوا السياسة بأنها علم القدرة فإنهم في الواقع يقصدون القدرة السياسية وإن لم تف ألفاظهم بهذا المقصد. وبالالتفات إلى أن القدرة السياسية عادة تتجلى في أرفع أشكالها وهو الدولة.
إذاً، في الواقع لا يوجد اختلاف قوي بين النظريات الثلاث ولذلك نرى في بعض آثار المحققين في العلوم السياسية أن القدرة السياسية من مختصات الدولة وخصائصها لا غير. على كل حال، فإن غرضنا الأساسي من هذا البحث هو أسلوب التحليل السياسي الذي يعتمد على الظواهر السياسية، لذلك فإنه لن يتأثر في تحديد موضوع علم السياسة بشكل قوي.