آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها

مناسبة: ما زالت المُقاومة عزّنا: ومـحمّـد كَبُـــر


أحمد بزّي


جرت أحداث هذه القصة في آخر خمسة أيّام من عدوان 2006م، وأولدت ما بعدها:

* الجزء الأوّل: تأويل رؤياي
- الأحد 13 آب عام 2017م، الساعة الخامسة فجراً:

أحد عشر عاماً وأنا أحاول جاهداً أن أكتب القصّة، ولم أنجح. انصرفتُ عن الكتابة مرّةً جديدة، وفكرتُ في إبقاء القصّة في ذاكرتي، ثمّ أكملتُ تنظيف قبر والدي. ولمّا انتهيت منه، قبّلته ووضعتُ خدّي الأيمن عليه، أغمضتُ عينيّ طويلاً، وقد أخذتُ أعمق أنفاسي. ولمّا أفقتُ، كتبتُ هذا التاريخ على الورقة: 9 آب 2006م، كان ذلك كافياً كي أبدأ.

- الأربعاء 9 آب 2006م الساعة الخامسة فجراً:
توجّهتُ نحو صديقي عليّ. لم أنتظره حتّى ينهي تعقيباته بعد صلاة الصبح. قاطعته قائلاً: "أريد تأمين اتّصالٍ بأهلي في الحال". استفسر عن السبب، فأجبته بما لم أخبر به أبي في حياته مطلقاً، وقلت: "رأيتُ مناماً غريباً، وسمعتُ فيه هاتفاً من السماء يقول لي: أَخرِج أمك وأخواتك من المنزل، وإلّا فأنت القاتل".

لم يشأ أبي مغادرة المنزل، ولا الحيّ طوال أيّام حرب تمّوز. يريد بذلك الثبات في داره، ولطالما عبّر أنّه لا يريد الموت "نازحاً". فبقيتْ أمّي وأخواتي معه أيضاً.

فكّرتُ ملِيّاً، وأنا أعرف أنّ أبي لن يغادر، ولكن هل سيأذن لأمّي وأخواتي بالمغادرة؟ وما الحيلة التي سأعتمدها في إقناعهنّ؟ ثمّ لماذا لم أرهُ هو في المنام؟

لم أشأ التواصل مع أبي بشأن ذلك، فأنا أعرف موقفه مسبقاً، اخترتُ التواصل مع أمّي، أبلغتُها وبشكلٍ حاسمٍ وقاطعٍ أن تخرجَ هي وأخواتي من المنزل حالاً، وتمضي إلى منطقة برج أبي حيدر، حيث أغلب أفراد العائلة. وقلت لها إذا أراد أبي فليذهب معكم، وإن لم يشأ فليبقَ.

بعد ساعة كانت أمّي وأخواتي في مدرسة برج أبي حيدر الرسميّة. وكان أبي لا يزال جالساً أمام دكّانه، على بُعد عشرين متراً من مجمع الإمام الحسن عليه السلام.

- الأحد 13 آب عام 2006م، الساعة الواحدة ظهراً:
استطعتُ الوصول إلى دكّان أبي، رأيته من بعيد مَحْنِيَّ الظهر، يريد أن يتوضّأ، لَمَحَني، فأقفل صنبور الماء ولم يُكمل وضوءه، رجع إلى الخلف، وابتسم. أسرعتُ الخُطى نحوه، سلّمنا على بعضنا بحرارة الشوق، تعانقنا، أذكر حينما انفكّينا عن بعضنا أنّه بكى وانحنى على يدي يريد تقبيلها، وبشكلٍ خاطف أبعدتها، وسرقتُ أنا القبلة.

صعدتُ إلى منزلنا فوق الدكّان، في الطابق الأوّل. أردتُ غسل ملابسي على عجل، وضعتُ الملابس في الغسّالة، شغّلتها فتوقّفت فجأة! سمَّيتُ باسم الله. أعدتُ تشغيلها فاحترقت، وتصاعد منها الدخان. أوقفتها سريعاً، وخرجتُ إلى الشرفة. تأمّلتُ الحيّ، باحة مسجد الإمام الحسن عليه السلام، ودكّان أبي. رأيتُ الشهيد الحاجّ أبو أحمد التيراني يدخل إلى مجمع الإمام الحسن عليه السلام، على درّاجةٍ ناريّةٍ صغيرة، وبين قدميه "صحارة باذنجان".

- "تعا شراب قهوة"، صاح له أبي. فأشار له بحركات يديه أنّه عائد بعد قليل. رأيتُ أيضاً الشهداء ياسر وإبراهيم وحسين نور الدين يدخلون المجمع من الباب الغربيّ، حيَّا بعضنا بعضاً بالإشارات، وتبادلنا رمي القبلات.

نزلتُ إلى الدكّان، ودَّعتُ أبي سريعاً، وأنا أفكر في سرِّ ما جرى، لم أشأ أن أخبره بشأن الغسّالة. مضيتُ نحو "ستديو فوعاني"، حيث سألتقي بصديق، يُقلّني إلى المقصد.

- الأحد 13 آب، عام 2006م، الساعة الثانية قبل النصف ظهراً:
ارتجّت كلّ المباني من حولي، تفتّحت كلّ البوّابات، وحتّى أبواب المصاعد، وسمعت بعدها الدويَّ بعد الدَّوي، حتّى أنَّ ضغط الهواء دفعني للأمام أمتاراً عدّة. ثمّ احتميتُ من الشظايا التي وصل مداها مئات الأمتار بعيداً عن مكان القصف. رأيتُ حيث أنا مجمع الإمام الحسن عليه السلام، يسقط أرضاً أمام عينيّ، "استشهد أبي". قلتُ في نفسي، "استشهد أبو أحمد التيراني، وياسر، وحسين، وبرهومَة". ركضتُ مهرولاً نحو المجمع، والدموع تتقاطر على خدّي، استرجعتُ آخر اللّحظات، "لماذا كان أبي يريد تقبيل يدي؟! لماذا أوصاني بأخواتي؟!". على الطريق كنت أسمع عبارات كثيرة..

- "أبو أحمد استشهد".

- "لا لم يستشهد".

- "نقلوه إلى المستشفى".

- "نقلوه إلى المستشفى شهيداً".

- "لا نقلوه حيّاً".

وصلتُ الدكّان. كان نصف دكّان! لم أجد له أثراً. صعدتُ إلى المنزل، وقد صار نصف منزل، لم أجده. انقسم المبنى إلى نصفين. عدتُ إلى الأسفل. أبصرتُ المجمع ملعباً واسعاً للذكريات، وعشرات الشهداء قد مرّت صورهم سريعاً في مخيّلتي. يا الله! الآن تراشقنا بالقبلات! ولم يعد أبو أحمد التيراني؛ لشرب القهوة!

تابعتُ الركض نحو مستشفى السان تيريز، وكان قلبي قد سبقني إلى هناك. وصلتُ إلى المستشفى. لا يمكنني الدخول إلى غرفة أبي؛ المحقّقون في الداخل. في الغرفة نفسها مشتبه فيه. وأخذوا يُطمئنوني أنّ أبي بخير. لكنّني لم أُبالِ بكلام أحد، تسلّلتُ ودخلت. رأيته ممدّداً قد احترقت عليه كلّ ثيابه، وفي قدمه خدشٌ صغير فقط. قال لي وهو يرتجف: "أحمد، كنت عم قول طول الوقت (يا علي، يا علي)، ولا كإنّي نزل حدّي غارات. قلتلو يا علي بن أبي طالب، صرلي 12 سنة بسعى إذا متت كون على وضوء، هلأ معقول موت بلا وضوء؟!".

في أثناء كلامه، كنتُ أبكي، وأضحك، ثمّ أضحك وأبكي، وقلت له: "الله يسامحك يا حاجّ، كنت كمِّل وضوءك طيّب".

في اللّيلة نفسها، قُصِف مبنى قرب مستشفى السان تيريز، فتقرّر إخلاء المستشفى. سرتُ على قدميّ ذهاباً وإياباً نحو الطريق الجديدة، وأحضرتُ لأبي بعض الملابس من هناك. خرجنا من المستشفى حُفاة القدمين، وقد جاء صديق أبي من الشّوف وأخذه إلى منزله.

هذا تأويل رؤياي. أبصرته وعشته بكلّ تفاصيله. ولو خرج أبي مع أمّي وأخواتي، لما كان الشاهد الأقرب للحدث.

* الجزء الثاني: محمّد قرعوني
استغلّ محمّد (9 سنوات) طيبة قلب أمه كعادته، وأخذ منها ألف ليرة لبنانيّة، وخرج يريد شراء المثلّجات من دكّان أبي الحاجّ أبو أحمد. وكعادته أيضاً، ركل محمّد كلّ ما استطاع إليه سبيلاً من حجارة وأغطية عبوات في الطريق، حتّى وصل إلى الدكّان. سلّم ودخل إلى حيث الثلّاجة. هو يعرف ما يريد، فتحها، مدَّ يده، ثمّ بدأ الكابوس.

رأى محمّد بعينيه أوّل صاروخ يضرب مجمع الإمام الحسن عليه السلام، لقد سقط الصاروخ وسط المجمع تماماً! ركض نحو المجمع يصرخ "أمّي"، والصواريخ تتساقط الواحد تلو الآخر. صرخ أبي في وجهه، التقطه وضمّه إلى صدره، حمله، وتكفّلتِ الغارات أن تطير بهما عشرة أمتار من باب الدكّان إلى آخره.

"زوبعة كبيرة" مليئة بالغبار، فقدا إثرها القدرة على السمع. فقدا القدرة على الحركة. علقا في الدكان! راح أبي يطلب من محمّد أن ينادي معه: "يا الله". ثمّ قال له: "قل يا محمّد، قل يا عليّ". لكنّ محمّد ابن التّسع سنين، مع كلّ ضربة كان يقول: "يا إمّي"! كلّ ذلك مرّ في بضع ثوان، انتهى كلّ شيء بعدها، عاد الصوت إلى الآذان. بدآ يرتجفان بشكلٍ يعجزان عن تفسيره، ومحمّد بين يديّ أبي. "ما زلنا على قيد الحياة"، صرخا. أعاداها: "ما زلنا على قيد الحياة، لقد عشنا"!

خرجا من الدكّان، وقفا يتأمّلان المجمع السكنيّ، اختفى المجمع؛ ثمانية أبنية صارت حجارة صغيرة. وضع أبي يده على عيني محمّد، لا يريده أن يرى الدمار ولا الدخان، ولا صورة أمّه فوق الركام. بكى الحاجّ أبو أحمد. حضن يتيمه الجديد محمّد قرعوني، فحضنه محمّد.

بدأ الناس بالوصول، رأوا أبي، حملوه مجروحاً بجرحٍ طفيف جدّاً إلى المستشفى، وبقي محمّد وحده في الساحة يتيماً. بعد تلك الحادثة نشأت بين أبي ومحمد علاقة لا يستطيع أحد أن يفهمها(1).

* الجزء الثالث: الكفالة
- 14-آب-2020م:
بعد أربعة عشر عاماً على الحادثة، وجدتُ في مذكّرات أبي رقم هاتفٍ لشخصٍ يحمل اسم "جمال". أذكر أنّ له قصّة مع أبي ومع محمّد قرعوني. أخذتُ الرقم ولم أتردّد في الاتّصال به، فأخبرني ما يلي:

"بعد حرب تمّوز، شاهدتُ مقابلةً على إحدى القنوات الفضائيّة، حول القصّة التي جرت بين الحاجّ "أبو أحمد" (أبوك) ومحمّد قرعوني؛ فعرفتُ بقصّة محمّد، وشهادة أمّه، ورعاية "أبو أحمد" له. يومها، ذكر والدك عبارة في المقابلة، جعلتني أحجز فوراً للسفر إلى لبنان، وهي: "محمّد إمو استشهدت، حدا بيقدر يرجّعلو إمّو؟".

أتيتُ من عمّان إلى الضاحية مباشرة. رأيتُ العزة في عيون الناس، حتّى وصلتُ إلى حيّ مجمع الإمام الحسن عليه السلام، ودون أيّ تنسيق مع أحد، رأيتُ الحيّ الذي شاهدته في التقارير، والدكّان!

- "أبو أحمد، أنا بعرفك، أنا من الأردن، حضرت مقابلتك".

يتذكّر جمال: "وضعتُ كفّي في كفّه بحرارة المعرفة القديمة، وردّها أبو أحمد بالحرارة نفسها. وبعد قليل من الكلام في السياسة العربيّة، سألته: (أبو أحمد، وين الولد اللي حكيت عنّو، بقدر شوفو؟).

بحثوا في الحيّ عن محمد قرعوني، لم يجدوه. لم أنتظر حتّى يصل محمّد، أخذتُ الحاج أبو أحمد جانباً، وأخرجتُ مبلغاً من المال، وقلتُ لأبيك: (أبو أحمد بترجّاك تقبل هالمبلغ لمحمّد. وليك، أنا رح أفتح حساب لمحمّد بالبنك من هون ليخلص جامعة. وعبرك إنت أكيد. الله بيحبّ اليتيم، والنبيّ أمر فيه). احتضنته، شددتُ على يديه، ومشيت. فجأةً، ناداني أبو أحمد، فرجعت. ثمّ نادى شابّين في الحيّ أيضاً. رفع المبلغ بين يديه، وأشهدهم عليه، وعلى عنوان صرفه. وبالحرارة الأولى نفسها ضحكنا معاً، وافترقنا.

وبعد أربعة عشر عاماً، وبالحرارة نفسها، حدّثني الأستاذ جمال عن المقاومين، وسألني عن أبي، وعن محمّد، فأجبته عن كلّ سؤال: المقاومة بعدها عزّة الناس، ومحمّد سيخطب، وسكتُّ. قال بلكنته الأردنيّة: "فهمت عليك، يرحم بيّك، كان رجّال طيّب".


(*) ما ورد رواه محمّد في مقابلة لفيلم وثائقيّ، نُفِّذ بعد عدوان 2006م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع